-->

تحليل نص: "عودة يوليسيز .." سميح القاسم (الشعر الحر)

 خطاب في سوق البطالة

ربما أفقد - ما شئت - معاشي

ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي

ربما أعمل حجاراً.. وعتالاً.. وكناس شوارع..

ربما أبحث، في روث المواشي، عن حبوب

ربما أخمد، عرياناً.. وجائع..

ياعدو الشمس.. لكن.. لن أساوم..

وإلى آخر نبض في عروقي... سأقاوم!!

٭٭٭

ربما تسلبني آخر شبر من ترابي

ربما تطعم للسجن شبابي

ربما تسطو على ميراث جدي

من أثاث.. وأوان.. وخواب..

ربما تحرق أشعاري وكتبي

ربما تطعم لحمي للكلاب

ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب

ياعدو الشمس.. لكن.. لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم!!

٭٭٭

ربما تطفئ في ليلي شعله

ربما أحرم من أمي قبله

ربما تشتم شعبي وأبي، طفل، وطفله

ربما تغنم من ناطور أحزاني غفلة

ربما زيف تاريخي جبان، وخرافي مؤله

ربما تحرم أطفالي يوم العيد بدلة

ربما تخدع أصحابي بوجه مستعار

ربما ترفع من حولي جداراً، وجداراً وجداراً

ربما تصلب أمي على رؤيا مذلة!

ياعدو الشمس، لكن، لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي... سأقوم

ياعدو الشمس..

وفي الميناء زينات وتلويح بشائر..

وزغاريد، وبهجة

وهتافات، وضجة

والأناشيد الحماسية وهج في الحناجر

وعلى الأفق شراع

يتحدى الريح.. واللج.. ويجتاز المخاطر..

إنها عودة يوليسيز

من بحر الضياع

عودة الشمس، وإنساني المهاجر

ولعينيها، وعينيه.. يمينا.. لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي

سأقاوم..

سأقاوم..

سأقاوم!!

أدرك بعض الشعراء أن الشعر العربي لا زال يدور في الطرق التقليدية المباشرة في التعبير عن نظرة الشاعر للحياة. من هنا حاولوا تغيير هذه الطريقة وتجديد الرؤيا للوجود  بناء على شمولية النظرة وكونيتها، وتجاوز المألوف وشبح التقليد واجترار ما لاكته الألسن، والفهم الثاقب للذات والجماعة والجمع بينهما، فانفتح الشعراء على الفلسفات والنظريات العالمية وتفاعلوا معها. ولعل أبرز من قاد هذه النزعة يوسف الخال، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البياتي وغيرهم، ولعل الشاعر سميح القاسم واحد من أولئك الذين تمثلوا ذلك في أشعارهم، وهو شاعر عرف بنضاله وحبه للوطن، ونظرته الكونية للقضية الفلسطينية، وهو صاحب النص الذي بين أيدينا. نفترض من خلال العنوان وهو عبارة عن جملة اسمية يحمل دلالة على رجوع بطل يوناني معروف، ومن خلال بداية النص ونهايته وشكله الهندسي، ومن خلال صاحبه أن يكون النص قصيدة شعرية حديثة تندرج ضمن شعر الرؤيا تتناول الاستمرار في النضال والمقاومة رغم العقبات، وعودة الإنسان الفلسطيني إلى أرضه. فإلى أي حد استطاع الشاعر تمثيل تيار تجديد الرؤيا من خلال هذا النص؟ و إلى أي حد يمثل هذا النص التيار الشعري الذي ينتمي إليه؟

      تكشف لنا القراءة الأولية للقصيدة عن أن الشاعر يوضح للقارئ الوضعية المتأزمة للأمة العربية عامة والفلسطينيين خاصة، وإصرار هؤلاء جميعا على المقاومة وطرد الاحتلال. إذ أبرز الشاعر في المقطع الأول تصميمه على الاستمرار في خط النضال وطرد العدو حتى لو كلفه ذلك كرامته أو حياته. لينتقل بعد ذلك في المقطع الثاني للحديث عن سرد الأفعال الشنيعة التي يقوم بها العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين من أجل إخضاعهم وطمس هويتهم وانتمائهم، واستمرار الصمود في وجه ذلك كله. على أنه في المقطع الثالث يفضح العدو ويبين أن التعذيب لم يقتص على الشاعر وحده بل تجوزه إلى كل من له علاقة به  كالأب والأم والأولاد والأصحاب بل والشعب كله بمختلف الأعمار والعلاقات.ليختم الشاعر قصيدته بتفاؤله طمعا في عودة من سيحرر الأرض من الغاصبين، ويعود على إثره كل من رحل عن وطنه، والاحتفال بذلك اليوم.

     بانتقالنا للمستوى المعجمي نسجل أن الشاعر ركز على معجمين اثنين لخدمة قضيته، معجم الاحتلال( تسلبني، السجن، تسطو، تحرق، كابوس، تحرم، تخدع ...) .ومعجم المقاومة/ النضال( سأقاوم، لن أساوم، زغاريد، بهجه، الأناشيد الحماسية، عودة ...). إن المزاوجة بين هذين المعجمين لتحمل دلالة واضحة مفادها أن تنوع فنون تعذيب العدو الإسرائيلي للفلسطينيين وتنكيلهم، لن يزدهم إلا مقاومة وصمودا.

      إن التيمة التي كشفنا عنها سابقا لتبدو جلية كذلك كن خلال الصورة الشعرية للقصيدة. وقبل ذلك الإشارة إلى اعتماد الشعر الحديث، خاصة شعر الرؤيا، على صور مختلفة عن الصور التقليدية، تقوم على الرمز والأسطورة والانزياح والإيحاء... وقد استغل السميح القاسم هذه الصورة أحسن استغلال. إذ وظف رموزا كعدو الشمس: إشارة إلى المحتل المتميز بالسجن والقتل والتنكيل. أم رمز ميراث جدي: فدلالة على الحضارة والتراث وكل ما له علاقة بالتاريخ الثقافي والحضاري والوطني الفلسطيني، ليبقى الجدار رمزا للحصار وسد جميع منافذ الحياة ، وعودة الشمس تعني الحرية، الحق، العدل. وإنساني المهاجر طبعا هو الإنسان الفلسطيني الذي رحل عن الأرض طوعا أو كرها...

أما على مستوى الأسطورة فقد عمد سميح القاسم إلى تحيين أسطورة يوليسيز / أوديسيوس وهو بطل في الأساطير الإغريقية عرف بالشجاعة والكرم والنبل، قاتل مع الجيش الإغريقي ضد طروادة في حرب دامت عشر سنوات، وحقق النصر. ثم قفل راجعا. إلا أن طول غيابه شكل فرصة للنبلاء لإعلان موته، وإقناع زوجته بتزوج أحدهم، لكنها لم تفعل وظلت تنتظره على الشاطئ حتى عاد عبر البحر، فسعدا. ولعل في تحيين الشاعر لهذه الأسطورة رسالة إلى الاحتلال الغاشم بأن الإنسان الفلسطيني عائد مهما طال غيابه، عائد إلى الأرض, وعائد إلى الدفاع عن حوضه وكرامته... وإن الشعب الفلسطيني لن يفقد الأمل أبدا، بل سيظل متفائلا بمجيء ذلك اليوم .

إن اعتماد صور شعرية حديثة كالرمز والأسطورة دلالة على أن الشاعر شكل رؤيته من منطلق كوني، يتداخل فيه القديم والحديث، الذات والجماعة. كل ذلك من أجل التعبير عن رؤية الإنسان الفلسطيني خاصة، والإنسان العربي عامة لقضيته، القائمة على تحدي المحتل والصمود في وجه التعذيب والتنكيل والترحيل القهري...

     والحال أن الإيقاع في الشعر الحديث يكشف عن ثورة ضد الوضع القائم. لذا تم اعتماد نظام الأسطر المتفاوتة في الطول، الاعتماد على نظام التفعيلة بدل البحر، وقد نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة الرمل (فاعلاتن)، وقد وزعها بشكل حر ليس فيه تساو بين الأسطر:

4- ربما أبحث في روث المواشي، عن حبوب

    /0/  / 0/0///0 /0 /0 // 0 /0 /0 //0/0

    فاعلاتن فـــــعلاتن فاعـــلاتــن فاعــلاتـن

 

39- سأقاوم

      ///0/0

      فعلاتن

 
 

 

 


ولعل المقارنة بين السطرين أعلاه توضح هذا التفاوت الذي نادى به الشاعر المعاصر. وما قيل على مستوى الوزن يقال كذلك عن القافية، إذ عمد الشعر الحر إلى تنويع القوافي (معاشي، وارع، قاوم، كلاب ...). ومن ذلك أيضا تنويع حروف الروي (ش، ع، ب، د، ر، م، ل...).

هذا على مستوى الإيقاع الخارجي، في فيما يخص الداخلي فقد عمد شاعرنا إلى تكرار مجموعة من الألفاظ (عدو الشمس، سأقاوم، لن أساوم، جدار، عودة) والعبارات (يا عدو الشمس .. لكن .. لن أساوم، و إلى آخر في نبض في عروقي.. سأقاوم) وكذلك تكرار الألفاظ المتوازنة صرفيا أو صوتيا (معاشي، فراشي/ أساوم، أقام/ ترابي، شبابي/ شعله، قبله، طفله/ بشائر، حناجر، مخاطر...). وكلها عبارات وجمل لها دلالة على المقاومة والنضال والتحرير .

إن ما توصلنا إليه في تحليل الصورة الشعرية، يفرض نفسه مرة أخرى ههنا، ذلك أن الشاعر المعاصر عمد إلى خرق عمود الشعر على جميع المستويات، منها المستوى الموسيقي، إذ سجلنا خروجا صارخا عن وحدة البحر ووحدة التفعيلة والروي. ولعل ثورة الشاعر الحديث على المألوف ، وكراهية إتباع التقاليد هو الذي قاده إلى ثورته على الشكل فضلا عن الموضوع.

      وعلى مستوى الأساليب نسجل كثرة الجمل الفعلية في المقاطع الأولى (أفقد، أعرض، أبحث، تحرق، تطعم، تسلب ...). لكن في المقطع الأخير طغت الجمل الاسمية (في الميناء، زغاريد، هتافات، إنها عودة، عودة الشمس...). ومعلوم أن الأفعال تدل على التحول والنشاط والتنوع، وأن الأسماء تحيل إلى الاستقرار والثبات. وبربط ذلك بالنص يمكن أن نصل إلى أن الشاعر رغم تنوع ما يقاسيه من ألوان العذاب وتحوله من سيء إلى أسوأ في ظل الاحتلال، فإن ذلك لن يثنيه عن الاستمرار والثبات على طريق النضال والمقاومة والصمود...

فيما يخص الضمائر فالشاعر راوح بين ضمير المتكلم (أفقد، معاشي، ثيابي، فراشي، سأقاوم ...)، الذي يحيل إليه وعبره إلى كل إنسان فلسطيني تهمه قضية الأرض. وهناك ضمير المخاطب (تسلبني، تطعم، تسطو، تحرق، تبقى، تطفئ ...) إشارة إلى العدو ومختلف الأعمال غير الإنسانية التي يقوم بها تجاه الإنسان الفلسطيني. وفي الأخير هناك ضمير الغائب (يتحدى، يجتاز، لعينيها، عينيه...) دلالة على الإنسان العائد إلى أرضه في وقت ما.

وهاهنا إشارة إلى أن أداة "ربما" تكررت عددا كثيرا من المرات في البداية ثم اختفت في نهاية القصيدة، ودلالة  ذلك أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني وما يقوم به المحتل الغاصب ليس شيئا أمام الواقع الصامد، وإنه من باب الأمر الحائل الزائل وليس يقينا دائما. أما غيابه في النهاية فدلالة على أن اليقين الحق هو العودة إلى الوطن والاحتفال بخروج العدو على أيدي الأبطال، والصمود في وجه كل المحاولات لطمس الهوية والانتماء.

هيمنة أزمنة المضارع إشارة إلى ما يقوم به الغاصب في الحاضر، ومقاومة الفلسطينيين. وتخلل بغض الأفعال المضارعة المسبوقة بحرف استقبال إشارة إلى استمرار التحدي والتفاؤل بالغد المشرق...

       صفوة القول إن القصيدة التي بين أيدينا قصيدة تنتمي إلى تيار تجديد الرؤيا، وكل مستوياتها تصرخ بذلك. فالشاعر قد عبر عن قضية من منطلق يتجاوز الذات، لتصبح قضية وطنية وقومية وفي النهاية قضية إنسانية، لكل إنسان يرفض القهر والاستعباد ويتوق إلى الحرية والكرامة، سالكا نهج الرفض والمقاومة والصمود. وقد تجسدت هذه الثورة من خلال الثورة على عمود الشعر العربي، إن على مستوى التصوير(الرمز والأسطورة)، أو على المستوى الموسيقي (تكسير الإيقاع القديم بحرا وقافية ورويا). فضلا عن المعجم الذي سيطرت عليه ثنائية الاحتلال والمقاومة. وبالنتيجة فإن النص نص تجديدي بامتياز، يدعم الفرضية التي وضعنا سابقا.

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "تحليل نص: "عودة يوليسيز .." سميح القاسم (الشعر الحر)"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات