-->

شرح قصيدة قذي بعينك للخنساء









1:- قذًى بعينكِ أمْ بالعينِ عُوَّارُ               أمْ ذرَّفتْ اذْ خلتْ منْ اهلهَا الدَّارُ
ويروى البيت:" ما هاج حزنك" بدل قذى بعينك. قذى: مسخ يصيب العينين. عوار: رمد. ذرّفت: قطرت قطرا متتابعا. المعنى: أهو قذى أصاب عينيّ أم طول بكاء ودموع على من خلت منه الدار؟ أي على صخر أخيها.

2:- كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ             فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ
وما من عيني إذ تخطر لي ذكرى صخر إلا سيل دمع غزير على الخدين يغمرهما ولا ينفك عن ذلك.

3:- تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ       وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ استارُ
ولهت: أصابها الجزع عند المصيبة. العبرى: التي لا يجف لها دمع. دونه: يفصلني عنه. أستار: صفيح وتراب. المعنى: إنني أبكي لصخر ودموعي لا تجف له، وقد مسني الجزع لمصيبتي، وأنا أعلم أن أستارا وترابا وصفائح تفصلني عنه.

4:- تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ         لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ
ما عمرت: طالما عاشت. رنين: صياح عند البكاء. مفتار: ضعيفة ومقصرة. المعنى: سأظل أبكي صخرا ما حييت، وإنّ بي عليه عويلا وبكاء وحزنا مسموعا وأنا مقصرة تجاهه ولم أفِهِ حقه من الدموع والأسى.

5:- تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا         اذْ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ
رابها الدهر: أصابها بما تكره. ضرّار: كثير الضرر والأذى. المعنى: إنني أبكي صخرا اخي وحق لي ذلك، إذ أن الدهر أصابني بكل مكروه وسوء، ألا إن الدهر كثير الأذى والضرر ولا مأمن منه.

6:- وما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطيفُ بِهِ              لها حَنينانِ: إعْلانٌ وإسْرارُ
7:- يوْماً بأوْجَدَ منّي يوْمَ فارَقني               صخرٌ وَللدَّهرِ احلاءٌ وَامرارُ
شرح البيتين السادس والسابع معا: عجول: من النساء والإبل من فقدت لعجلتها في مجيئها وذهابها جزعا. البوّ: أن ينحر ولد الناقة ويدنى من جلده لترأمه. إعلان: الحنين المسموع. إسرار: الحنين المخفوض. المعنى: إنّ الناقة التي مات ابنها وقد قرِّب إليها جلده لترأمه وتحن عليه ما بين حنين مسموع وآخر مخفوض، ليست أكثر مني حزنا ووجدا وأسى على فراقي لصخر، ويا له من دهر يوم نساء منه ويوم نسر.


8:- وإنّ صَخراً لَوالِينا وسيّدُنا                  وإنّ صَخْراً إذا نَشْتو لَنَحّارُ
إنّ صخرا هذا كان والينا وسيدنا ورئيس قومنا، وإنه إذا امتحن بالكرم والجود في الشدائد والأزمات وفي أيام الشح والقلة، كان سباقا إلى الذبح والنحر.

9:- وإنّ صَخْراً لمِقْدامٌ إذا رَكِبوا               وإنّ صَخْراً إذا جاعوا لَعَقّارُ
وإنّ صخرا لشجاع مقدام يقود الجيوش يجرها وهو على رأسها وفي طليعتها إذا هب قومي لحرب أو غزو، وإنّ صخرا أخي في زمن الجدب والمحل والعوز والحوج لنحار كريم يجود بكل ما أوتي من بهيمة لا يؤخرها عن قوم محتاجين.

10:- جلدٌ جميلُ المحيَّا كاملٌ ورعٌ            وَللحروبِ غداة َ الرَّوعِ مسعارُ
جلد: صبور. ورع: تقيّ. الروع: الفزع. وإنّ صخرا أخي لصبور ومتروٍّ ومتأنٍّ وحليم، بهي الطلعة كامل الأوصاف، وهو مشعال لنار الحرب إذا اتقدت أيام الفزع والهلع.

*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-

شكل واسلوب:-

ý    المطلع: حديث بكائي تظهر فيه الأنا الباكية، ومن باب براعة الاستهلال الذي يفضي بالمتلقي إلى الاستدراج التفاعلي مع النص، ويدخله إلى الجو السائد فيه، ويجعله يتأكسد ويتهدرج مع النص، ويوحده معه، ويطلق العنان للألفاظ تسبر غور المتلقي، فيجد نفسه متحدا منسجما منخرطا في النص انخراطا لا فكاك منه، وهو بمثابة العنوان التواجدي التضامني التعاطفي مع النص.
ý    استعمال التجريد: فهي تجرد من نفسها مخاطَبا توجه له حديثها، وهو من دواعي الاستئناس والترفق بالنفس واللين والتعزية وإزالة الوحشة واستحضار لضمير يتسلى به.
ý    الاستفهام التخييري: قذى بعينك أم بالعين عوار؟ فجاء هذا الاستفهام كي يعطي الاحتمالات جميعا للإجابة، مع الإيحاء بالإجابة الصحيحة المرجوة المنشودة من خلاله، وذلك لإفادة الحيرة، التردد، التأمل، الدهشة، الاستهجان، واستقصاء الخيارات، ولجعل المتلقي يتفاعل ويستنشط ذهنه بالإفصاح عن المقصود. وقد أدلت الخنساء بثلاثة خيارات لما يجعل عطبا أو خللا في عينها، ولنا الخيار في استنتاج المقصود.
ý    التكرار: في البيت الأول "أم" للتعبير عن القلق الكامن في داخلها، لا ينفك يساورها، يعذبها ويحيرها.
ý    التصريع في البيت الأول: لترك الوقع القوي المكين في الجو الحزين للاستعطاف والترقيق لحالها ولمأساتها، ولخلق الاستجابة لدى المتلقي حال تنغمه بالتصريع.
ý    الهندسة الصوتية: في البيت الأول: "عين" +"عين"، "ت" +"ت"، "أم" +"أم"، "ر" +"ر" وهذا يقمم الجو لأعالي الانفعال الحسي والتواجدي والتعاطفي التضامني مع القصيدة.
ý    القافية: مطلقة غير مقيدة، جاءت لتنطلق وتمتد مع أنين الشاعرة المتحسرة المتألمة المتلوعة، وهذا ما أضفاه عليها مد الراء _ رو…..، والمد هنا لا ينقطع ولا يتوقف إلا بانتهاء النفس الطويل تعبيرا عن الحزن والأسى واللوعة والحرقة، والشاهد على استغلال الخنساء لفجيعة حرف الراء هنا ولما يتركه هذا الحرف من شدة وبأس في النفس أنه تكرر كثيرا في القصيدة لجعله حرفا طاغيا على نفسية القصيدة قاطبة.
ý    التشطير: وهو أنى يتوازن المصراعان والجزآن وتتعادل أقسامهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه واستغنائه عن الآخر، مثل قولها:" وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا _ وإنّ صخرا إذا جاعوا لنحَّارُ، والغرض من التشطير إحداث الإيقاع المجلجل المدوي لدى المتلقي، ترك صدى قويّ في النفس، الجهر بالأصوات الموزونة لا إسرارها وإخفاؤها وذلك لغرض الإشهار أو الإعلان أو الكشف والفضح، وتعمد إصدار الجلبة والضجة من الأصوات الموزونة.
ý    التطريز: وهو أن يقع في أبيات متتالية من القصيدة كلمات متساوية في الوزن فتبدو كطراز الثوب. كما في قولها:" حنينان: إعلان وإسرار، وللدهر: إحلاء وإمرار. والغرض منه تقوية المعاني الوجدانية وخوض المجالات النفسية لدى المتلق، والتصيد لحالة تستهز المشاعر، تستهوي الأحاسيس، تستلفت النبرات، وتستجلب العِبَر، وتستقطب الفِكَر.
ý    التكرار: تكرار للحروف، تكرار للأسماء أو بضمير عائد عليها، تكرار للأفعال ومترادفاتها، ومما لا شك فيه أن يحتل اسم صخر المرتبة الأولى في التكرارات وذلك لأنه أي صخرا لب وموضوع القصيدة وعنوان اللوعة والأسى والمواساة والعزاء والتأبين والرثاء فيها، ونلحظ تكرار بارز لكلمة "الدهر" لأنه السبب المباشر في مصيبة الخنساء(على حد اعتقادها)، فهي تعبر عن تحرقها منه، وفجعها بأخيها، وهو المصارع الأبدي الذي لا قاهر له، وجاء تكرار" البكاء" على معانيه الفعلية والترادفية: "ذرّفت"، "فيض يسيل"، "تبكي" ثلاث مرات متتالية وذلك لتأكيد لاستباحة البكاء على أخيها ولأحقيته به ولكي يتفهمها المتلقي، "العبرى"، وكل هذه الألفاظ جاءت لتفرض الصورة العاطفية للرثاء: البكاء والعويل والنواح والأنين والوله والذرف الدموع. وتكرار: "خناس" وقد قالت "خُناس"  للتعبير عن الهزال والوهن والضعف والانكسار الذي أصابها بفقدها أخاها، وتكرار "وإن صخرا"، فجميع المكررات لها علاقة وشيجة متينة وطيدة باللب الموضوعي: الرثاء الذي يقوم على إهاجة العواطف وإقرانها بالعواصف، إضافة إلى أغراض التكرار المعهودة: التشديد ، التوكيد ، الترديد ، التجديد ، الموسيقا والانفعال النفسي وللتهويل والتعظيم والتحقير .....وترسيخ المعاني وتذويتها في النفوس للتعبير عن حالة نفسية معينة.
ý    التوكيد: بقولها: "وإنّ لَ" أي استعمال "إنّ" واللام المزحلقة، وقولها: "ما عجول… بأوجد" أو قولها: "إنّ"، وقولها "قد ولهت، "تعدد الأخبار:" جلد، جميل المحيا، كامل، ورع" والغرض من التوكيد: تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره ولإزالة الشكوك وإماطة الشبهات بصدده وتوضيح مسألة كون الرسالة المؤكدة لا تحتمل وجهي التلقي ما بين التكذيب والتصديق.
ý    التشبيه: في مثل قولها:" كأن عيني…..فيض" شبهت جريان الدمع بالفيض الجارف والسيل الطاغي، والغرض من التشبيه: بيان حال المشبّه ، بيان مكانة المشبّه ، تزيين المشبّه ، تقبيح المشبّه ، تقريب المشبّه من صورة مألوفة ، تبعيد المشبّه من صورة مألوفة، تعظيم المشبه أو تحقيره، تبليغ المشبه إلى المثل الأعلى أو الأدنى، الإقناع والاحتجاج، الإفصاح عن المعاني المشبهة، تقريب المعاني إلى الواقع.
ý    استعمال صيغ صرفية معينة لخدمة المعاني: كاستعمال الصفة المشبهة: "جميل، ورع، سيد، جلد، كاملٌ (باعتبار حذفت المضاف إليه للصفة المشبه كامل ليكون أصلها كامل الأوصاف)، وهذه الصفات تفيد الثبات والاستقرار وبيان الحال والهيئة. وجاءت صيغة المبالغة "فعال" و"مفعال" وجاءت لإبداء التعظيم، التهويل، التضخيم، الإكبار، الصدق، الانفعال، صدق المشاعر، إبراز درجة الإعجاب وبلوغ أقاصي المعاني.
ý    الجمل الخبرية: والغرض منها: الإفادة المحكمة بالمقاصد، تقديم المعرفة والعلم للمتلقي، علم ويقين المخبِر بالحكم المراد من الإخبار، تقصير الجمل لتتخذ زي الوعظ السلس للحفظ، الإفصاح عن علم المخبِر وترك الحكم على أقواله للمتلقي وفي ذلك إسقاط للواجب الخطابي من أداء الرسالة وإلقاء المسؤولية في وعيها على المتلقي.
ý    الجمل الفعلية: الغرض منها: الاستمرارية، عدم انقطاع الفعل، النفس المطلق، المد، الديمومة، الثبات على حال وإشارات مستقبلية.وجاءت الأفعال الماضوية للتعبير عن الفقد والفجيعة البينة، وجاءت الأفعال المضارعية للتعبير عن استمرار العبوس والألم والبكاء وعدم انقطاع الحزن.
ý    الالتفات: في مثل قولها:" قذى بعينك أو ذرفت" من المخاطَب إلى الغائب، "خطرت" و "يسيل" من الماضي إلى المضارع، "تبكي" و "ولهت" من المضارع إلى الماضي، والغرض منه: لفت النظر أو السمع إلى المتكلم، إثارة للمتلقي، استصغاء المتلقي، ولتقوية المعاني وشموليتها، لتخصيص المتلقي المخاطَب وللتصريح بكنه الخطاب، لتوبيخ المتلقي المغيّب، لاستقصاء الاحتمالات المعنوية للأفعال المُسْتَلْفَتَة، استحضار الغائب وتغييب الحاضر، ثبوت المخاطَب المغيَّب والمخاطَب المستحضَر في نفس المتلقي على حد سواء أي سواء أكان حاضرا أم غائبا.
ý    الاستعارة: ومنها: "للحروب غداة الروع مسعار" استعارة مكنية، فقد شبهت الحرب بالنار، وحذفت المشبه به، ومنها: "للدهر إحلاء وإمرار" استعارة مكنية، فقد شبهت الدهر بالشراب الذي يتصف بالحلاوة أو المرارة. والغرض منها: جعل المعنى أكثر حركة، ثراء، دلالة، وابقى أثرا، اشتباك الحركة الفكرية بالحركة النفسية لإنتاج حركة كلية، وتوخي التجاوب والاستجابة مع المعاني.
ý    تتبع هذه القصيدة لشعر الرثاء: وقوامه العاطفة الصادقة والندب والتأبين والعزاء، فهو الشعر الذي يعبّر فيه الشاعر عن الحزن واللوعة والعاطفة الملتهبة تجاه الفقيد، والّتي تنتابه لغيابه، وقد فُجِعَ بفقده، بتعداد مناقبه والإشاده بمآثره والتوجع عليه، وتتردد في الرثاء صولة الموت وسلطان الفناء، ويتضمن ابياتاً حكمية تدعو إلى الاعتبار والزهد.


اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

3 الردود على "شرح قصيدة قذي بعينك للخنساء"

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات