-->

تحليل قصيدة "هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي" – عبد الوهاب البياتي



لم تقم الحركة الشعرية الحداثية على مفهوم تكسير البنية فحسب، ولكنها تأسست على شق ثان وهو ما يعرف بتجديد الرؤيا، فالشاعر يجب أن يمتلك رؤيا شعرية خاصة للقضايا المحيطة به ومجتمعه، والشاعر عبد الوهاب البياتي من الشعراء الذين اكتسبوا هذه الرؤيا وعبروا عنها في أشعارهم وخاصة في مسألة الموت والبعث التي انطلق منها كفكرة ليصل إلى حلم الانبعاث من قوقعة التخلف والهزائم التي فرضت على الواقع العربي. وهو صاحب النص الذي بين أيدينا. نفترض من خلال العنوان، وهو عبارة عن جملة اسمية تحيل على الشاعر الأسطوري الذي استطاع بفنه وغنائه أن يحصل على إذن من كبير الآلهة "زيوس" لإنقاذ زوجته من العالم السفلي بشرط أن يمشي أولا وتسير وراءه دون أن يكون له الحق في النظر خلفه، غير أن أورفيوس خالف هذا الشرط عندما التفت وراءه ليتأكد من وجود زوجته فاختفت على الفور. ومن خلال بداية النص ونهايته وشكله الهندسي، ومن خلال صاحبه، نفترض أن يكون النص قصيدة شعرية حديثة تندرج ضمن شعر الرؤيا يعبر فيها الشاعر عن رؤيته الشعرية تجاه الإنسان وقضاياه الوجودية والحضارية. ونفترض أن توظيف الشاعر لهذا العنوان وبهذه الصيغة يحيل على ما يؤرق الإنسان في هذه الحياة، وهو طبيعة وجوده وكيفية التخلص من الموت. فإلى أي حد استطاع الشاعر تمثيل تيار تجديد الرؤيا من خلال هذا النص؟ و إلى أي حد يمثل هذا النص التيار الشعري الذي ينتمي إليه؟

تكشف لنا القراءة الأولية للقصيدة عن أن الشاعر يوضح للقارئ المسار الذي قطعه أورفيوس في هبوطه إلى العالم السفلي بحثا عن عشتار، وذلك من خلال الحالات والوضعيات التالية: إذ رسم الشاعر في الحالة الأولى صورة عن الظروف المحيطة بمدينة آشور(وفات الفارس دون حرب، طيران الثور الخرافي الذي نطح الشمس).لينتقل بعد ذلك في الحالة الثانية للحديث عن الحوار الذي دار بين أورفيوس وعشتار حول الحلم بحياة جديدة ودائمة. على أنه ختم القصيدة بتأكيده على فكرة عبثية هذه الحياة وما يتلوها من موت.

بانتقالنا للمستوى المعجمي نسجل أن الشاعر ركز على معجم شعري يتألف من ثلاثة حقول: حقل دال على الطبيعة (الريح، الشمس، الثور، أسحار، السدود، القش، الشوك، ...)، وحقل دال على الزمان (الليل، فجر، عصر الليالي، الخريف، العصور، ساعاته...)، وحقل دال على الإنسان (الفارس، الكاهن، الإنسان، الرعيان، ...). إن المزج بين هذه الحقول الدلالية ليحمل دلالة واضحة، ذلك أن الشاعر قد استغل عناصر الطبيعة والزمان والإنسان ليعبر عن فلسفته في الوجود، والعلاقة بين هذه الحقول وثيقة نظرا لتضافر الطبيعة مع الزمان للتحكم في مصير الإنسان.

إن التيمة التي كشفنا عنها سابقا لتبدو جلية كذلك من خلال الصورة الشعرية للقصيدة. وقبل ذلك لا بأس من الإشارة إلى اعتماد الشعر الحديث، خاصة شعر الرؤيا، على صور مختلفة عن الصور التقليدية، تقوم على الرمز والأسطورة والانزياح والإيحاء... وقد استغل عبد الوهاب البياتي هذه الصور أحسن استغلال للتعبير عن رؤيا شخصية وتجربة خاصة. وقد اتخذ أسطورة "أورفيوس" قناعا ومرتكزا لهذه الرؤيا، كما أضاف إليها عددا من الرموز مثل: عشتار، الثور الخرافي، الريح، الليل، الرماد، الجليد، الماء والخبز... وهذه الوسائل ساعدت على إغناء النص وجعل مضامينه قابلة للتوسع بفضل التأويل.وقد اعتمد الشاعر أيضا الانزياح كوسيلة من وسائل الصورة الشعرية كما في قوله (صلوات الريح في آشور، حاملا خصلة شعر الشمس تبكيها ...)،فهذه الانزياحات تسمح أيضا بالتأويل وإثراء معاني النص. غير أن توظيف الشاعر لهذه الوسائل المستحدثة لم يمنعه من اعتماد الوسائل التقليدية، ك: التشبيه (كالعصافير على حائط نور، كالطفل الوليد...)، والاستعارة (وبشطآن عصور) حيث شبه العصور بالبحر وحذف المشبه به.

والحال أن الإيقاع في الشعر الحديث يكشف عن ثورة ضد الوضع القائم. لذا تم اعتماد نظام الأسطر المتفاوتة في الطول، والمختلفة باختلاف حالات الدفقة الشعورية مع الاعتماد على نظام التفعيلة بدل البحر، وقد نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة الرمل (فاعلاتن)، وقد وزعها بشكل حر ليس فيه تساو بين الأسطر. كما نوع في القافية (/00)،(/0/)، والروي ( الدال، التاء، الراء، اللام، ).

هذا على مستوى الإيقاع الخارجي، أما فيما يخص الداخلي فقد عمد شاعرنا إلى تكرار مجموعة من الألفاظ (قاع، عصور، الموت، الليل..) والعبارات (أوراق الخريف، الثور الخرافي، )، وتكرار الأصوات (السين،الراء، الدال، اللام...)،وتكرار المدود الصوتية، وكذلك تكرار الألفاظ المتوازنة صرفيا أو صوتيا (قبور، عصور/ شهود، سجود / جليد، حديد.......). وكلها عبارات وجمل لها دلالة على وضعيتين متناقضتين، وضعية مغضوب عليها وضعية مبحوث عنه ولو كان في الخيال.

إن ما توصلنا إليه في تحليل الصورة الشعرية، يفرض نفسه مرة أخرى هاهنا، ذلك أن الشاعر المعاصر عمد إلى خرق عمود الشعر على جميع المستويات، منها المستوى الموسيقي، إذ سجلنا خروجا صارخا عن وحدة البحر ووحدة التفعيلة والروي. ولعل ثورة الشاعر الحديث على المألوف، وكراهية إتباع التقاليد هو الذي قاده إلى ثورته على الشكل فضلا عن الموضوع.

      وعلى مستوى الأساليب نسجل أن الشاعر ركز على الجمل الخبرية التقريرية التي توافقت وطبيعة الحكي الموجودة في النص. ولكن ذلك لم يمنع الشاعر من توظيف عدد من الجمل الإنشانية، كأسلوب الاستفهام (فلماذا أنت في الكهف وحيد؟)، والنداء ( أيها الثور الخرافي، أيها النور الشهيد).وهذه الجمل تحدد الطبيعة الانفعالية للشاعر.

فضلا عن ذلك نجد أن الشاعر زاوج بين الجمل الاسمية التي استخدمها في عمليات الوصف (صلوات الريح في آشور، الحضارات تموت...)، والجمل الفعلية التي تدل على الحركة والفعل والحدث (ينام الناس، ترسم الثور، ترتدي أسمالهم، انطوت في لحظة، أرتدي أسمالهم...).

فيما يخص الضمائر فقد ركز الشاعر على ضمير المتكلم المفرد (أنا/ أرتدي/ أنفخ/ ...) الذي يحيل إليه وعبره إلى كل إنسان تهمه قضية التجديد والبعث والتحول. وهناك ضمير الغائب (يهزم/ يذرى/ يطير/...).إلى جانب ذلك نجد حضور ضمير المخاطب (نادتك...).

صفوة القول إن القصيدة التي بين أيدينا قصيدة تنتمي إلى تيار تجديد الرؤيا، وكل مستوياتها تصرخ بذلك. فالشاعر قد عبر عن رؤيا شعرية استخدم فيها مجموعة من الرموز والأساطير، وهي رؤيا عبر فيها الشاعر عن نظرته للإنسان من حيث كينونته الوجودية والحضارية التي قد تصل به أحيانا إلى التفكير في عبثية هذا الوجود الذي تبدو نهايته حتمية.وإذا نقلنا هذه النظرة إلى الواقع العربي الذي يعيشه الشاعر، نستطيع أن نقول بأن الضعف العربي المتواصل يجعل الشاعر يقف عند السؤال الصعب: هل يمكن الحديث عن انبعاث جديد؟ وهل يستطيع أن نحترم كل شروط هذه العودة إلى الحياة، أو أننا سنخفق كما أخفق أورفيوس في العودة بزوجته "أوريديس" إلى الحياة فقط لأنه أراد أن يتأكد من أنها ما تزال تتبعه إلى العالم السفلي. 

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "تحليل قصيدة "هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي" – عبد الوهاب البياتي "

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات