-->

تــحــلــيـل نموذج قصصي (1) " مــبـــارزة " – محمد إبراهيم بوعلو

تميز النثر العربي، قبل عصر النهضة، بالانحطاط في مستواه الفني نتيجة الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون، إلى درجة أصبح معها النص مجرد معرض للزخارف اللفظية والمحسنات البديعية الفارغة. أما في العصر الحديث، فقد تطور هذا الفن، وظهرت فيه أجناس أدبية جديدة كالمقالة، والمسرحية، والقصة القصيرة. ويعتبر الفن القصصي من أبرز الملامح الفنية التي ميزت المشهد الثقافي لهذا العصر، وذلك نتيجة لمجموعة من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، أبرزها إحياء التراث العربي، والانفتاح على الثقافة الغربية، والاستجابة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة، بالإضافة إلى الدور البارز للصحافة التي ساعدت على الانتشار الواسع لهذا الفن عبر صفحات الجرائد والمجلات، وقد مثل الفن القصصي في العالم العربي مجموعة من الأصوات الإبداعية نذكر منها: محمود تيمور، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وعبد المجيد بن جلون، ومحمد زفزاف، وأحمد بوزفور، ومحمد إبراهيم بوعلو. ويعتبر هذا الأخير من رواد القصة القصيرة في المغرب، ويبدو ذلك من خلال إصداره للعديد من الأعمال في هذا المجال، منها مجموعته القصصية "الفارس والحصان" التي اقتطف منها النص الذي يحمل عنوان "مبارزة".فبمجرد ملاحظتنا لشكل النص وحجمه، وقراءتنا لعنوانه،وهو عبارة عن لفظة واحدة لها مرجعية في التاريخ العربي  والعالمي ، فالمبارزة عملية ثنائية بين فارسين تسبق كل حرب كبيرة بين جيشين ، كما يمكن أن تكون بين شخصين بينهما عداوة أو تصفية حساب،والفقرة الأولى منه، نكتشف أنه نص نثري قصير يندرج ضمن جنس القصة القصيرة، وأنه يتناول شخصية، ويصف حالتها (محرج – مهان)، ويتحدث عن تأهبها لإنجاز حدث (مبارزة).فهذه المؤشرات تدعونا منذ البداية أن نفترض بأننا بصدد نص قصصي.إذن، ما مضمون الأحداث التي تنتظم هذه القصة؟ وما خصائصها الفنية؟ وإلى أي حد استطاع الكاتب، من خلالها، أن يتمثل مميزات الفن القصصي؟

تدور أحداث القصة حول شخص وجد نفسه- فجأة- أمام خصم عنيد يريد أن يبارزه، وزاد من صعوبة الموقف أن شرفه سيهان إذا هو لم يقبل هذه المبارزة. وقد حاول البطل أن يتجنب هذا الموقف باختلاق مجموعة من المبررات، إلا أن هذه المبررات كانت واهية، بحيث لا تعبر عن سبب معقول من شأنه أن يلغي هذه المواجهة. وبذلك تضافرت مجموعة من العوامل، منها استفزاز الخصم وسخريته، وإهانة الأصدقاء وتهديدهم، وحب الخطيبة والغيرة عليها، في الاتجاه إلى قبول هذه المبارزة، بل وإنجازها بفعل بطولي. إلا أنه تبين، في النهاية، أن وقائع هذه المبارزة لم تكن سوى أحلام تراءت للبطل في نومه نتيجة تأثره بأحداث رواية "الدون كيشوت" في محاربته للطواحين الهوائية.

وإذا تأملنا وقائع هذه القصة،من بداية النص إلى نهايته، نجد أنها تنتظم في خطاطة سردية تقوم على تعاقب سلسلة من الحالات والتحولات، فالحالات هي مجموع الأفعال والسلوكات التي تقرب الذات من إدراك الموضوع ( الخروج من الموقف المحرج)، أما التحولات فهي مجموع الأفعال التي تنجزها الذات للانتقال من حالة إلى أخري ( اختلاق مبررات لتلافي المعركة- التفكير في الانسحاب والفرار)، وقد انتهت القصة باتصال الذات بالموضوع المرغوب عنه (إجراء المبارزة)، وانفصالها عن الموضوع المرغوب فيه (الانسحاب أو الفرار). ولا شك أن امتلاك الذات للموضوع قد مر بمجموعة من اللحظات السردية المتفاعلة ضمن برنامج سردي، بحيث تم الانطلاق من لحظة التحريك أو التحفيز ( شعور البطل بالإهانةثم الانتقال إلى لحظة القدرة أو الأهلية  (لجوء البطل إلى حمل السيف وإبداؤه الاستعداد لخوض المعركة ثم التحول إلى لحظة الإنجاز ( الانخراط الفعلى في المعركة)، وأخيرا الوصول إلى لحظة الجزاء ( تقدير الحبيبة واعتراف الأصدقاء).

وبالتحول للحديث عن الخصائص الفنية التي تمتاز بها هذه القصة، وجدناها تتميز بحضور: أ- الشخصيات: فالشخصية الأساسية في هذه القصة هي البطل الذي كان مطلوبا للمبارزة وهو يتميز بعدد من الصفات يمكن إجمالها كما يلي:

-         الصفات النفسية: فهو ذو شخصية قلقة مضطربة تتجاذبها عدد من العوامل النفسية المتناقضة كــ :الخوف، والحب، والشجاعة، والجبن .

-         الصفات الاجتماعية: له خطيبة فاتنة و أخت و أصدقاء.

-         الصفات الفيزيولوجية: ذو بنية جسمانية ضعيفة أو عادية ( كان يعتبر نفسه غير مؤهل لهذه المبارزة).

بالإضافة إلى شخصية البطل هناك شخصيات أخرى تمثلت أساسا في الخصم الذي دعاه للمبارزة، و كذلك الأخت التي كان يبارزها كل مساء، بالإضافة إلى الأصدقاء.

إن تطور الأحداث، من البداية إلى النهاية، قد ساهمت فيه مجموعة من القوى الفاعلة، ويمكن تشخيص هذه القوى الفاعلة، وتحديد أدوارها، وتوضيح مختلف العلاقات القائمة بينها في النموذج العاملي التالي:

الــمـرسـل

(مجموع دوافع الشباب الفوارة)

الــمـوضــوع

( الظفر بشرف البطولة وكسب التحدي)

الــمـرسل إلـيـه

( الخطيبة – الأصدقاء)

الـمـسـاعــد

(السيف، تشجيع الأصدقاء، الغيرة على الحبيبة)

الــــذات

(البطل المهان والمتحدى)

الــمـعــارض

(الخصم العنيد، الخوف، الانسحاب)




ومن منطلق أن الوقائع والأحداث لا يمكن إنجازها بمعزل عن المكان والزمان، فإن الكاتب قد اختار حيزا مكانيا يتناسب مع الحدث الرئيسي (المبارزة)، ويتجلى هذا الحيز المكاني في "الغابة" باعتبارها مكانا مفتوحا وخاليا، كما أنه عبر عن المكان من خلال الإشارة إلى حركة واتجاه اليد وهي تحمل السيف ( ولوح به في الهواء ذات اليمين وذات الشمال). ولا شك أن هذه الخصوصية المكانية تجعلنا نتخيل المبارزة أكثر حركية وضراوة وعنف.

أما الزمان فيحظى بحضور محدود في النص، ويتمثل في ثلاثة مظاهر بارزة هي: الزمن الفلكي الذي يقاس بلحظات زمنية، وهو الليل حيث نام البطل و رأى حلمه.والزمن النحوي الذي يتميز بهيمنة الفعل الماضي ( وجد نفسه في موقف حرج – واقترب منه خصمه – ونظر إلى رفيقه..)، ثم الزمن النفسي الذي يقاس بلحظات الخزف والحرج التي كانت تعيشها الشخصية قبل الإقدام على المبارزة. ولا شك أن الحضور المحدود للزمن راجع إلى ارتباط النص بعالم نفسي داخلي أكثر من ارتباطها بعالم خارجي.

أما بخصوص النسق الزمني، فإنه يتميز غالبا بهيمنة الزمن التعاقبي، وذلك من خلال تسلسل الأحداث في النص كما يفترض أن يكون ذلك في الواقع، وإذا كان هذا النسق هو الغالب، فإننا نستثني من ذلك حالة واحدة لجا فيها السارد إلى الاسترجاع والاستذكار، حيث يقول على لسان البطل: " إني تعلمت من قبل المبارزة. لقد كنت أتسلى مع أختي كل مساء، وكنت دائما أنتصر عليها"، وحالة واحدة لجأ فيها إلى الاستشراف والتوقع، ومثال ذلك ما قاله على لسان البطل كذلك: " إني عما قريب سأموت، وسيعلنون على مسامعك ذلك".

وإذا تأملنا الوتيرة الزمنية، فإننا نجدها تارة تتميز بالتكثيف والاختزال اللذين تنتج عنهما سرعة في تعاقب الأحداث، ومثال ذلك:" والتحم الخصمان، وسمع الجميع صليل السيفين، كان يتقدم مرة ويتأخر أخرى، ويدور عن يمينه وعن شماله"،وتارة بالتمطيط والامتداد، وينتج عن ذلك توقفات معينة يحدثها السارد بسبب لجوئه إلى الوصف والتعليق، مما يجعل السيرورة الزمنية بطيئة بالمقارنة مع الزمن في الواقع\ن ومثال ذلك: " وانشرح عندنا تخيل أن أصدقاءه تهللوا واستبشروا إنه سيبعد عنهم شبح الهزيمة لكنه طأطأ رأسه عندما تذكر أن المبارزة ستكون بسيف حقيقي، بسيف حاد على نصله يلمع الموت.."، وتارة ثالثة نكتشف تطابقا بين زمن القصة وزمن السرد، ويتحقق ذلك من خلال المقاطع الحوارية التي تأتي في تضاعيف السرد، ذلك أن الحوار هو الحالة الوحيدة التي ينتج عنها تطابق وتساو بين زمن القصة وزمن السرد.

وبحكم أن القصة عمل سردي، فال بد من سارد يقدمه إلى القارئ، ويتميز السارد في هذا النص بكونه ساردا غائبا ومحايدا\ن لكنه شاهد على ما يحدث، وذلك وفق رؤية سردية تهيمن عليها " الرؤية من الخلف"، أي أن السارد يبدو أكثر علما بما يقع في النص من الشخصية، بحيث يستطيع أن يتغلغل في داخلها، فيكشف لنا عن أحاسيسها ومشاعرها ونواياها وأفكارها، كما أنه يسنح لنفسه بالتعليق على الأحداث وعلى الشخصيات، ومن أمثلة ذلك قوله: " إننا نستطيع أن نصف بالضبط ما كان يجول في دماغه وهو في موقف حرج...".

وبالإضافة إلى السرد، يلعب الوصف دورا أساسيا في بناء النص القصصي، ويتم ذلك انطلاقا من مجموعة من الوظائف المختلفة أهمها التعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، فمثال التعريف بالشخصيات ما قيل عن الصفات الخارجية والنفسية للخصم، "فهو شخص عنيد، وخصم جبار، ورجل أحمق، ووحش ضار،وذو قسمات قاسية ونظرة صارمة..."، وكذلك ما قيل عن الخطيبة بأنها " فاتنة وتشبه الحمامة". ومثال التعريف بالأمكنة ما قيل عن مكان المبارزة بأنه "مكان موحش وغابة بعيدة". ومثال التعريف بالأشياء ما قيل عن السيف بأنه " سيف حقيقي وسيف حاد على نصله يلمع الموت". وفضلا عن الوظيفة السابقة هناك وظيفة أخرى للوصف تتمثل في إنارة الأحداث والمساهمة في خلق التشويق والترقب، كقول السارد: "فارتاع وارتجف، وابتلع ريقه في شيء من الإشمئزاز". ولا يمكن أن نغفل كذلك وظيفة ثالثة هي الوظيفة الجمالية التي يؤديها الوصف باعتباره وسيلة أساسية لتكسير رتابة السرد، ومنح القارئ فرصة ليستريح من تدفقاته المتلاحقة.

ولخلق تفاعل بين الشخصيات أو التعبير عن عالمها الخارجي يلجأ الكاتب إلى تقنية الحوار، والحوار في النص نوعان: داخلي تجربه الشخصية مع نفسها، فيساعد ذلك على كشف ما بداخلها من أفكار ومشاعر ومواقف..، ومثال ذلك ما حدث به البطل نفسه بقوله: "كيف أسمح له بها.. إنني خطيبها الشرعي، وإنني أمام العالم أجمع أحق بها من غيري". ثم هناك أيضا الحوار الخارجي، ويتم تارة بين البطل وخصمه (ماذا تنتظر؟ .. لا شيء يا أخي)، وتارة بين البطل وأصدقائه (عندما سنقتلك نحن – إنكم جميعا أوغاد).

وبانتقالنا للدراسة الأسلوبية للنص، نجد أن اللغة المستعملة يهيمن عليها المعجم النفسي الذي يساعد على التغلغل في الشخصيات وكشف بواطنها الداخلية، كما أن الكاتب يراوح فيها بين الجملتين الخبيرة والإنشائية، فالجملة الخبرية تساعد على تقديم الأحداث والتعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، أما الجملة الإنشائية فتساعد على تحقيق التواصل والتجاوب بين الأطراف المتفاعلة في القصة. بالإضافة إلى ذلك لا يمكن التغافل عن أهم ميزة تميز لغة النص وهي الوظيفة الشعرية التي تحققها انطلاقا من طابعها الإيحائي الذي ينزاح عن اللغة العادية، فينتج عن ذلك تعابير جميلة تمارس تأثيرا وجاذبية على المتلقي، ومثال ذلك: ( لكن عينيه اشتبكتا بعيني رفيقه – إنه سيبعد عنهم شبح الهزيمة – غزت قلبه وساوس وظنون...).

إن غاية الكاتب (القاص) من هذه القصة هو استبطان الشخصية الإنسانية وكشف دواخلها وإبراز متناقضاتها، وهذا ما ينطبق على الشخصية المحورية، بحيث تبدو شخصية مركبة ومتداخلة، تتجاذبها مجموعة من المتناقضات، فهي تتأرجح بين الضعف والقوة، والتردد والحماس، والذل والكرامة، واليقظة والحلم، والواقع والوهم.

استنادا إلى ما سبق، يتبين أن النص يمثل إلى حد كبير مقومات القصة القصيرة الحديثة، فهو من جهة ينتمي إلى "تيار الوعي" الذي ظهر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان يهدف إلى استبطان الشخصية الإنسانية وكشف دواخلها وإبراز متناقضاتها، وهذا ينطبق على شخصية البطل الذي يسمح لنا النص بالغوص في عالمها النفسي الداخلي وتبين أفكارها ورغباتها ومشاعرها المختلفة، وهو من جهة ثانية يمثل هذا الفن من خلال قيامه على وحدة الحدث (المبارزة)، وقلة الشخصيات (البطل – وغريمه – وخطيبته – وأصدقاؤه)، والمحدودية في الزمان والمكان (لحظة المبارزة في الغابة)، بالإضافة إلى سمات فنية أخرى كالسرد الذي تهيمن عليه الرؤية من الخلف، والوصف الذي تتوزع وظائفه بين التعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، وإنارة الأحداث، وتكسير رتابة السرد، ثم الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي الذي يتيح التواصل بين الشخصيات والتغلغل في أعماقها، وهناك كذلك التنوع في الأساليب بين الخبر والإنشاء، وأخيرا هناك توظيف لبعض الصور البلاغية التي منحت النص طابعا شعريا إيحائيا.وقد ساهمت هذه المقومات الفنية في بناء نص قصصي يتميز بالتشويق والإثارة التي تدفع المتلقي إلى الانجذاب والترقب والتفاعل مع الأحداث والشخصيات، الشيء الذي طبع النص بسمة خاصة، تجعل منه تجربة متميزة، كما تجعل من صاحبه دعامة أساسية للفن القصصي بالمغرب. 

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "تــحــلــيـل نموذج قصصي (1) " مــبـــارزة " – محمد إبراهيم بوعلو"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات