-->

تــحــلــيـل نموذج قصصي (2) " الـغــابــر الــظــاهــر" – أحمد بوزفور

 

تعتبر القصة القصيرة جنسا أدبيا سرديا يهتم بنقل الوقائع والأحداث من واقعها الفعلي إلى المتلقي. والنص السردي ذو طبيعة استرجاعية تخييلية. وقد ظهرت القصة في صورتها الحديثة في الغرب وانتقلت إلى الوطن العربي عبر الترجمة والمثاقفة، وترعرعت بالمغرب لتشكل نافذة للتعبير عن الواقع المتردي بسبب الاستعمار، وعن خيبة الأمل التي صاحبت الاستقلال في كثير من الدول العربية، ولتحتضن، بذلك، آفاق وآمال وطموحات الفئة المثقفة. ومن أهم مرتكزاتها أنها تنبني على السرد حيث يقوم السارد بنقل أحداث قامت بها شخصيات معلومة في مكان وزمان معينين. ومن أهم خصائصها الفنية، قيامها على اللغة والوصف والسرد والحوار. وقد مثل الفن القصصي في العالم العربي مجموعة من الأصوات الإبداعية نذكر منها: محمود تيمور، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وعبد المجيد بن جلون، ومحمد زفزاف، ومحمد إبراهيم بوعلو، وأحمد بوزفور. ويعتبر هذا الأخير من أحد الرواد الذين طورا تجربة الكتابة القصصية بالمغرب مسهما بعدة أعمال أدبية ومجموعات قصصية مثل: "النظر في الوجه العزيز"، و"صياد النعام"، وديوان السندباد"، و"الغابر الظاهر"، وهو عنوان المجموعة القصصية التي أخذ منها النص الذي يحمل العنوان نفسه .فبمجرد ملاحظتنا لشكل النص وحجمه، وقراءتنا لعنوانه، وهو عبارة عن جملة اسمية تحمل دلالة، فالغابر (سر ومختفي) والظاهر (كائن وسراب)، نفترض بأن هذا النص عبارة شكل من أشكال النثر الحديث، وانطلاق من بداية النص تنكشف الحجب عن أسلوب لا نشكك في كونه ذا طبيعة سردية، ويزكي هذا الطرح نهاية النص ومصدره الذي أخذ منه حيث يعود للقاص المغربي الكبير أحمد بوزفور في مجموعته القصصية "الغابر الظاهر" مما يجعلنا نفترض أن النص عبارة عن قصة قصيرة. وأنه يتناول قضية ذات بعد اجتماعي. فهذه المؤشرات تدعونا منذ البداية أن نفترض بأننا بصدد نص قصصي. إذن، ما مضمون الأحداث التي تنتظم هذه القصة؟ وما خصائصها الفنية؟ وإلى أي حد استطاع الكاتب، من خلالها، أن يتمثل مميزات الفن القصصي؟

وللتأكد من صحة الفرضية أو عدمها، نبدأ تحليلنا للنص مستهلين ذلك بجرد أحداثه ووقائعه، حيث تبدأ أحداث القصة  بهروب الإخوة الثلاثة بفعل سوء معاملة زوجة أبيهم، ونزوحهم إلى الشارع الذي احتضنهم في غابته الإسمنتية ومرنهم على قساوته وأرغمهم على اعتناق مذاهب الانحراف، والانحلال، والتفسخ، التي اعتنقتها أختهم فرارا من واقع القسوة والحرمان بعد التغرير بها، وارتمائها في جحيم الدعارة.

وقد تجسدت تلك الأحداث في ثلاثة مقاطع سردية، إذ نجد القاص في المقطع السردي الأول يشير إلى المعاناة النفسية للإخوة الثلاثة وقد جسدتها الصورة التعبيرية المتوالدة ( البرد، الأقدام الحافية التي وخزتها ابر الجن، الشوك، الخوف، الضياع وسط الغابة ليلا...).وينتقل القاص، فجأة، إلى تصوير مشهد الطفلة – كوثر – وحيدة بعد أن ضاع إخوتها في ظلام الغابة ، لتجد نفسها على مسافة بعيدة منهم، تعاني من ظلم زوجة الأب التي تحملها أعباء لا تطاق، إلى أن جاءت تلك المرأة المبتسمة لتخلصها من قهر زوجة الأب، وتلحقها بإخوتها. أم في المقطع الثالث، فقد صور لنا القاص مآل الطفلة – كوثر- بعد وصولها إلى الإخوة الثلاثة، حيث كانت تبحث عن السعادة لكنها صدمت بخيبة الأمل نتيجة المعاملة الـلاإنسانية التي عاملها بها إخوتها الثلاثة، فعوض الحصول عن السعادة التي كانت تبحث عنها ، وجدت شقاء وتعاسة .  

وبغية التعمق أكثر في البنية الدلالية لأحداث القصة، ورصد الطريقة التي نقلت بها الأحداث وكيفية تناسقها وتطورها، نخضع النص لتقنية الخطاطة السردية كآلية تمكننا من التعرف عن طريقة حبكة الأحداث. وإذا تأملنا وقائع هذه القصة، من بداية النص إلى نهايته، نجد أنها تنتظم في خطاطة سردية تقوم على تعاقب سلسلة من الحالات والتحولات وفق ما يلي:

الوضعية البدئية

لحظة الوسط والتحول

الوضعية النهائية

خروج ثلاثة أطفال إلى الغابة هروبا من ظلم زوجة الأب بحثا عن السعادة والطمأنينة

حدث طارئ

العقدة

الحل

تعرض كوثر للاغتصاب والقتل من طرف أخيها الأكبر، واستغلال قبرها مزارا لتحقيق رغباتهم المادية.

- التفات كوثر إلى الوراء ورؤيتها لامرأة مبتسمة عرضت عليها المساعدة للالتحاق بإخوتها والفرار من ظلم زوجة الأب

مرافقة كوثر للمرأة، واختفاء هذه الأخيرة.

رؤية كوثر لنار صغيرة تغمز بالخوف والحب.

مناداة كوثر على النار وأمرها بالاقتراب منها

لقاء كوثر بالإخوة الثلاثة .

ولا شك أن امتلاك الذات للموضوع قد مر بمجموعة من اللحظات السردية المتفاعلة ضمن برنامج سردي، بحيث تم الانطلاق من لحظة التحريك أو التحفيز ( شعور كوثر بالظلم ثم الانتقال إلى لحظة القدرة أو الأهلية  (لجوء الطفلة كوثر إلى قبول مساعدة المرأة المبتسمة ثم التحول إلى لحظة الإنجاز ( الانخراط الفعلى في الرحلة)، وأخيرا الوصول إلى لحظة الجزاء ( الالتقاء بالإخوة الثلاثة).

وبما أنه لا بد لكل قصة من شخصيات تتحرك داخل الفضاء السردي، وتقوم بصناعة الحدث وتنميته وتطويره، كان لزاما علينا جرد القوى الفاعلة التي قامت بالأحداث داخل النص السردي، وإبراز صفاتها ورمزيتها، وذلك على الشكل الآتي:

القوى الفاعلة الآدمية

(الأساسية)

سماتها النفسية والاجتماعية

رمزيتها

الـــذكــــور

الإخــوة الـثـلاثــة

الأخ الأكبر

قوي، مريض نفسيا....

الهتك والاغتيال

الأخ الأوسط

جميل، فقئت عيناه....

الاستسلام لقوانين الغاب

الأخ الأصغر

ذكي، كسرت ساقاه ....

الاستسلام لقوانين الغاب

الإنـــــاث

الــطـفــلـة ( كوثر )

مبهورة،مقهورة،تعرضت للقتل والاغتصاب  ....

الوجه الحقيقي للبلاد بكل صفاتها وبراءتها.

الـــــــمــــرأة

مبتسمة، صوت عذب وحنون

صدرها واسع ...

التغرير والإغراء والاستغلال

الــقــوى الــفــاعــلـة غــيــر الآدمية

الأشـــجــــار

-------------------

رمز للفئة المثقفة الملتزم بالحياد السلبي.

الأحــــجــــار

-------------------

رمز لأصحاب المصالح والنفوذ والقوة.

الــــــبــــــوم

-------------------

جهاز مخابراتي للدولة الناعق والساهر على أمنها

الأطـــــفــــال

-------------------

العامة،الغوغاء،المتمردين

وحتى نتمكن من رصد التفاعل بين الفاعليين داخل الفضاء السردي، سوف نتوسل بالنموذج العاملي كتقنية قادرة على وصف هذا التفاعل، وعلى تحديد هوية الفاعلين. وذلك وفق الشكل الآتي:

الــمـرسـل

(ظلم زوجة الأب- إغراء المرأة المبتسمة)

الــمـوضــوع

( الاتصال بالإخوة ولم الشمل وتحقيق السعادة)

الــمـرسل إلـيـه

( كوثر – الإخوة الثلاثة)

الـمـسـاعــد

(المرأة المبتسمة- النار)

الــــذات

(الطفلة كوثر)

الــمـعــارض

(التعب، الخوف، الوحدة، النار التي تغمز بالخوف والحب الانسحاب)

 

 

 

 

 

 

 

 

 


ومن منطلق أن الوقائع والأحداث لا يمكن إنجازها بمعزل عن المكان والزمان، فإن الكاتب قد اختار حيزا مكانيا يتناسب مع الحدث الرئيسي، ويتجلى هذا الحيز المكاني في "الغابة" باعتبارها مكانا مفتوحا وخاليا، ورمزا لقانون الغاب حيث الحق للقوي. ولا شك أن هذه الخصوصية المكانية تجعلنا نتخيل هوله. وإلى جانب ذلك هناك أمكنة أخرى من قبيل:(الأضرحة، الجبال، قمة الجبل...).

أما الزمان فيحظى بحضور محدود في النص، ويتمثل في ثلاثة مظاهر بارزة هي: الزمن الفلكي الذي يقاس بلحظات زمنية، وهو الليل، والصباح.والزمن النحوي الذي يتميز بهيمنة الفعل الماضي ( كان حتى كان، قالت الطرشا، كانوا، وقع الظل....)، ثم الزمن النفسي الذي يقاس بلحظات الخوف والحرج والقلق التي كانت تعيشها الشخصية المحورية (كوثر) قبل التحاقها بالإخوة الثلاثة. ولا شك أن الحضور المحدود للزمن راجع إلى ارتباط النص بعالم خيالي (أسطوري) أكثر من ارتباطه بالواقع.

أما بخصوص النسق الزمني، فإنه يتميز غالبا بهيمنة التدرج الخطي في النص، وما يزكي ذلك هو الانتقال الملحوظ من الأعم إلى العام، ومن الخاص إلى الأخص. وبتأملنا لأحداث النص نكتشف أن هناك تسلسل في نقل  الأحداث، هذا التسلسل تحقق بفعل خاصيتي الاستلزام والتضمن اللتين تسمانه.

وبحكم أن القصة عمل سردي، فالا بد من سارد يقدمه إلى القارئ، ويتميز السارد في هذا النص بكونه ساردا غائبا ومحايدا تارة لكنه شاهد على ما يحدث، وذلك وفق رؤية سردية تهيمن عليها " الرؤية من الخلف"، أي أن السارد يبدو أكثر علما بما يقع في النص من الشخصية، بحيث يستطيع أن يتغلغل في داخلها، فيكشف لنا عن أحاسيسها ومشاعرها ونواياها وأفكارها، كما أنه يسنح لنفسه بالتعليق على الأحداث وعلى الشخصيات، ومن أمثلة ذلك قوله: " قالت الطفلة مقهورة، قالت الطفلة مبهورة". وتارة أخرى نجد السرد يقع على لسان شخصية مشاركة في أحداثه، ومن أمثلة ذلك قوله:" قالت الطرشا: سمعت حس الخيل دازوا...".

وبالإضافة إلى السرد، يلعب الوصف دورا أساسيا في بناء النص القصصي، ويتم ذلك انطلاقا من مجموعة من الوظائف المختلفة أهمها التعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، فمثال التعريف بالشخصيات ما قيل عن الإخوة الثلاثة ( قال الأجمل، قال الأذكى، قال الأقوى).ومثال التعريف بالأمكنة ما قيل عن المكان الذي لجأ إليه الأطفال الثلاثة. ومثال التعريف بالأشياء ما قيل عن النار التي تغمز كوثر. وفضلا عن الوظيفة السابقة هناك وظيفة أخرى للوصف تتمثل في إنارة الأحداث والمساهمة في خلق التشويق والترقب. ولا يمكن أن نغفل كذلك وظيفة ثالثة هي الوظيفة الجمالية التي يؤديها الوصف باعتباره وسيلة أساسية لتكسير رتابة السرد، ومنح القارئ فرصة ليستريح من تدفقاته المتلاحقة.

ولخلق تفاعل بين الشخصيات أو التعبير عن عالمها الخارجي يلجأ الكاتب إلى تقنية الحوارالخارجي، ويتم تارة بين الطفلة كوثر والمرأة المبتسمة ( تعالي معي- أنا أرعى البقر...)، وتارة بين الطفلة كوثر وإخوتها الثلاثة ( أنا عريسها، أنا حبيبها، دعوها تختار- قالت كوثر: أنا أختكم يا ويلكم).

وبانتقالنا للدراسة الأسلوبية للنص، نجد أن اللغة المستعملة يهيمن عليها المعجم النفسي الذي يساعد على التغلغل في الشخصيات وكشف بواطنها الداخلية، كما أن الكاتب يراوح فيها بين الجملتين الخبيرة والإنشائية، فالجملة الخبرية تساعد على تقديم الأحداث والتعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، أما الجملة الإنشائية فتساعد على تحقيق التواصل والتجاوب بين الأطراف المتفاعلة في القصة. بالإضافة إلى ذلك لا يمكن التغافل عن أهم ميزة تميز لغة النص وهي الوظيفة الشعرية التي تحققها انطلاقا من طابعها الإيحائي الذي ينزاح عن اللغة العادية، فينتج عن ذلك تعابير جميلة تمارس تأثيرا وجاذبية على المتلقي. إن الطابع الغالب في نص الغابر الظاهر هو توظيفه، بل اعتماده على قالب أسطوري أملته اختيارات محددة سلفا، نظرا لقدرته على استيعاب أنماط وأشكال ثقافية متعددة، تمكن من خلالها القاص الأستاذ أحمد بوزفور، من تطريز فضاء النص بجماليات متعددة، ومحكيات مختلفة اعتمادا على لغة اليومي، والمألوف، والمتداول لاصباغ طابع المغربية على هوية النص.

إن غاية الكاتب (القاص) من هذه القصة هي كشف تلك الصورة القاتمة عن الواقع العربي المريض والمصاب بكل الانفصامات في شخصيته ، وعن تطلعاته الفاقدة لكل منطق، أو عقل، والخالية من كل مشاعر، المتفسخ سلوكا، وأخلاقا، وعقيدة. وهو ما سوف يثير ردود فعل من خارج الوسط الموبوء من طرف "سكان الأضرحة [لتدارك] أمر الأرض، والزمن الفاسد، والجيل الماسخ، لم تقبل في الجمع شفاعة، واتفقوا، وأعطوا التسليم، وصلوا الفجر جماعة

استنادا إلى ما سبق، يتبين أن النص يمثل إلى حد كبير مقومات القصة القصيرة الحديثة، فهو من جهة  يمثل هذا الفن من خلال قيامه على وحدة الحدث (البحث عن الإخوة)، وقلة الشخصيات (الطفلة – والإخوة – والمرأة– والأطفال، والمحدودية في الزمان والمكان (لحظة الهروب إلى الغابة)، بالإضافة إلى سمات فنية أخرى كالسرد الذي تهيمن عليه الرؤية من الخلف، والوصف الذي تتوزع وظائفه بين التعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، وإنارة الأحداث، وتكسير رتابة السرد، ثم الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي الذي يتيح التواصل بين الشخصيات والتغلغل في أعماقها، وهناك كذلك التنوع في الأساليب بين الخبر والإنشاء، وأخيرا هناك توظيف لبعض الصور البلاغية التي منحت النص طابعا شعريا إيحائيا. وقد ساهمت هذه المقومات الفنية في بناء نص قصصي يتميز بالتشويق والإثارة التي تدفع المتلقي إلى الانجذاب والترقب والتفاعل مع الأحداث والشخصيات، الشيء الذي طبع النص بسمة خاصة، تجعل منه تجربة متميزة، كما تجعل من صاحبه دعامة أساسية للفن القصصي بالمغرب. وتبقى قصة الغابر الظاهر، صرخة قوية ترصد مغرب سنوات الرصاص والجمر بكل مآسيها وجوائحها، في قالب أسطوري بليغ استلهم مقوماته من الواقع الثقافي المغربي بأسلوب ساحر أو ساخر وصادم في نفس الوقت، اعتمد الإبطان والإضمار تارة، والترميز والتلميح تارة أخرى، داخل متاهة حكي يتطلب من القارئ امتلاك مفاتيح لكشف حجبه وأسراره الحارقة والنازفة على الدوام .


اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "تــحــلــيـل نموذج قصصي (2) " الـغــابــر الــظــاهــر" – أحمد بوزفور"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات