-->

البعد الاجتماعي في رواية ابن الرومي في مدن الصفيح

 


- البعد الاجتماعي:

البعد الاجتماعي
تتعدد القضايا التي عالجتها هذه المسرحية و تتنوع، ولكن قضيتين أساسيتين تأتيان في مقدمة القضايا التي تم التركيز عليها، وهما:
أ – الاستغلال الاجتماعي
إن إثارة موضوع مدن الصفيح في هذه المسرحية ة هو مؤشر مبكر على تحويل هذا الموضوع الى قضية مركزية في العمل المسرحي.
وقد واجه سكان حي الصفيح، كما مر بنا، ما كان يحاك لهم في الخفاء تحت واجهة مشروع سياحي يدر الخير العميم على الجميع بمن فيهم السكان الفقراء، وفي الوقت الذي كان فيه الهدف الحقيقي هو هدم أكواخهم و تشريدهم و بناء مشروع سياحي لفائدة غيرهم. (اللوحة 3ص16-17)
لقد عبرت الشخصيات المنتمية لصنف المقهورين عن عمق المأساة حين تحدثت عن ظلم بغداد لأهلها. هكذا، نطق دعبل الأحدب على سبيل المثال:
- < … حدبتي ورثتها عن بغداد التي وزعت و ما أنصفت،…> ( اللوحة 10 ص51)
إن إستراتيجية الكتابة المسرحية بنيت منذ البداية بين ابن دنيال و دنيازاد إذ نجدهما يوجهان جميع أقوال و أفعال الشخصيات لتشخيص مظاهر الاستغلال الاجتماعي بكل ما تتطلبه من مواجهة بين مستضعفين ومستقوين، ومن حضور لمن هم في موقع المساعدة أو المعارضة للطرفين. كما عملا على توضيح كون الشخصيات التاريخية مجرد أقنعة لمعاناة الإنسان الحالي في العالم العربي:
من الطبيعي أن يتحول القهر و الاستغلال الاجتماعي إلى مادة أساسية لبناء موضوع المسرحية، لذلك بالنظر إلى أن الفترة التي نشرت فيها لأول مرة كانت من أكثر فترات التاريخ العربي تركيزا على القضايا الاجتماعية و السياسية في معظم البلدان العربية، وقد كان ذلك سببا في تسهيل دخول بعض النظريات الاجتماعية و السياسية التي تنادي بالمساواة بين الناس و توزيع الثروات بطريقة عادلة أو تحقيق الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
ب – استغلال المرأة
اعتبرنا استغلال المرأة قضية مستقلة لما حظيت من اهتمام خاص ومتميز في عالم النص المسرحي، علما أننا أشرنا إلى الدور الريادي في الفكر و التمرد، ونشر الوعي لدى شخصية نسائية أساسية وهي شخصية عريب.
معظم النماذج النسائية الموجودة في هذه المسرحية خاضعة لقهرية مزدوجة:
- سلطة السيد مقابل خضوع العبد. وهنا رجع المؤلف إلى نظام الرقيق في التاريخ العربي من أجل تقوية صور الاستغلال الجنسي للنساء على الخصوص.
- سلطة المال الذي حول جسد المرأة وروحها معا إلى مادة للاستهلاك.
ولقد أشرنا سابقا إلى تمرد عريب ورفضها أن تجمع بين أن تكون سلعة تباع و تشترى، وأن تمنح عواطفها للأسياد. هكذا عبرت عن حلمها بالتحرر حين مثلت رفضها الانصياع لرغبات رئيس المجلس البلدي في شخص حبابة، كما أنها رفضت أن تبادل ابن الرومي مشاعره العاطفية وصك شرائها بين يديه. (اللوحة 14 ص74). وقد اندمجت قضية المرأة في هذا العمل مع قضية التحرر الاجتماعي العام. وهذا ما يفسر عودة عريب إلى ابن الرومي من أجل دعوته إلى الخروج من عزلته ليعانق قضايا الناس في الأسواق متعللة بدعوته للبحث عن خلخالها الضائع (اللوحة16 ص 91)
وهناك في النص قضايا أخرى لها ما يصلها بالقضيتين الأساسيتين المذكورتين، ومنهما:
ج – مساندة القاهر ضد المقهور من أجل الحصول على المال
ففي مرحلة من مراحل حضور ابن الرومي في النص المسرحي، بدا مساندا لسلطة المجلس البلدي من أجل الحصول على المال. وقد سلك طريق التكسب بشعره على عادة شعراء العصر العباسي، أو على ديدن من يبيع فنه و جهده الفكري طمعا في الحصول على المال.
د – قضية الحرية
باعتبارها شرطا أساسيا للوجود الفردي و محورا لتبادل العواطف الإنسانية. وقد مثلت عريب هذا الجانب أفضل تمثيل حين قادت ابن الرومي بالحوار و المنطق إلى تحريرها من العبودية، ثم قادته هو نفسه إلى تحرير نفسه. كما أن شخصيات حي الصفيح كانت تبحث دائما عن عالم جديد يكون فيه الإنسان طليقا حرا. هكذا كان جحظة المغني يحلم أمام أصحابه: <... احترقت بنا الشوق الأزرق، فقدت وزني، تبخرت، تحررت من نعلي وقميصي، ومن بقايا الموت والأكفان...> ( اللوحة15 ص77)
البعد النفسي
الجدير بالذكر أن النص المسرحي قد ركز على ما يمكن أن يبتلى به كل ممالئ للقاهرين من قلق ووساوس واضطرابات تجعله عاجزا في كثير من الأحيان عن أن يعيش حياة إنسانية مفعمة بالمحبة و التآزر. وهذا في الواقع بعد نفسي حاضر بقوة في النص المسرحي وخاصة من خلال الشخصية المركزية، وهي شخصية ابن الرومي على الأقل في مرحلة هامة من حياتها المسرحية. ولعل هذا الحضور القوي للتوتر النفسي يعود بالدرجة الأولى إلى الحمولة النفسية التاريخية لما كان يعرف عن هذه الشخصية من اضطرابات ووساوس وتشاؤم و تطير. وقد استطاع عبد الكريم برشيد أن يستغل هذه المعطيات و يبلورها بخلق مناخ من التوتر حولها لما كان لها من علاقات مع شخصيات المسرحية الأخرى، وخاصة عريب وجيران ابن الرومي بكل ما فيهم من عيوب كانت دائما تستفز مشاعره وتجعله كارها للحي و أهله، منطويا على نقسه، قابعا وراء باب بيته.
على أن المسرحية حاولت أن تضيف إلى البعد النفسي التشاؤمي بعدا عاطفيا أخر مر بالمرحلة الحسية و انتقل إلى مرحلة عاطفية إنسانية بين ابن الرومي و عريب، وبينهما من جهة وسكان حي الصفيح من جهة أخرى. يقول ابن الرومي معبرا عن مشاعره نحو عريب في عز لحظات التلاؤم العاطفي بينهما وخاصة بعد أن حررها من العبودية:
< ... عريب ... عيناك بحر الأقيانوس، في أغوارهما ضاع كل ملاح وغواص...> (اللوحة14 ص 74).
أما عاطفة المحبة وصفاء الروح التي اجتاحت ابن الرومي في نهاية المسرحية نحو جيرانه فقط عبر عنها كما يلي:<...عيسى، جحظة،دعبل ، أشعب، اقتربوا، اقتربوا يا من في أحداقكم أقرأ ما في القلب ...>(اللوحة16 ص89)
وعلى العموم فالجانب النفسي و العاطفي في المسرحية، وظف دائما لتدعيم العلاقات بين الشخصيات وتوترها بما يخدم البعد الاجتماعي و الدرامي فيها.

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

1 رد على "البعد الاجتماعي في رواية ابن الرومي في مدن الصفيح"

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات