بين الفصحى والعامية
بين الفصحى والعامية
بقلم الدكتور عبد الرحيم بن داود
الحمد لله الذي
علَّم بالقلم، علَّم
الإنسان ما لم يعلم، وجعل التفاهم باللسان والقلَم، وجعل الكتابة وسيلة للاقرار
وتبرئة للذمم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الأعلم وعلى آله وصحبه
ذوي الفضل والكرم،
تعد العربية من أهم وأقدم، بل وأعتق اللغات السامية الجنوبية،التي لازالت راسخة إلى يومنا هذا،
إذ حافظت على كينونتها بفعل استقرار العرب في صحرائهم، دون سائر الشعوب السامية
الأخرى التي تعرضت للإختلاط.
ومع ظهور الإسلام
شكل نزول القرآن بلسان عربي منعرجا ونقلة نوعية بالنسبة لهذه اللغة، هذا اللسان
وكما -وصفه الدكتور صبحي الصالح- اللسان المثالي المصطفى، الذي أبهر وتحدى خاصة
العرب وبلغائها، بأن يأتوا بمثله أو بآية من مثله، يقول الله الجليل الأجل )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا
بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(، ويقول سبحانه )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا
بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن
تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة
أعدت للكافرين(، على حين دعا العامة إلى تدبر آياته وفقهها
وفهمها وأعانهم على ذلك بالتوسعة في القراءات،ومراعات اللهجات في أحرفه السبعة
المشهورة.
واللغة العربية في
عصرنا الحاضر، واحدة من اللغات العالمية التي لم تتأثر بالتطورات التي تصيب اللغات
المحكية، نظرا لصفتها الدينية، على الرغم من كل الهجمات التي تلقتها من قبل الغرب
ولا زالت تتلقاها للأسف حتى من قبل من يحسبون على العرب، هؤلاء الذين يرفعون لواء
إحلال العامية مكانا لها.
أولا يَعلمُ هؤلاء أن العامية خرجت من رحم الفصحى
نتيجة لأحداث كثيرة،
سياسية بالدرجة الأولى، واجتماعية وثقافية بدرجات أقل، كل هذه الأحداث لعبت دورا
فعالا بأن مهدت البيئة الملائمة والسمت المستقيم. أمام العامية، لتُولد
وتكتسح البيئة العربية حتى صارت تُتداول وتخرج من أفواه وألسنة أهل الفصاحة
والبلاغة، الذين أبوا أن يواروا لغتهم الفصيحة (العربية) الثرى، حتى وإن علموا أن
العامية هي ذاك الجنين الذي سيولد ميتا لا محالة، منذ أن كان داخل أحشاء أمه، آخدين بكل
سذاجة في وأد لغة العروبة والقرآن .
ولكن لا غرابة في ذلك فالعربية منذ الزمن الماضي الأزل تلقت إبان
الإحتلال هجمات عنيفة، سهر على إعداد خططها
مستعمرون أذكياء دهاة، عملوا في السر والخفاء كثيرا، وفي الظهور
والعلن قليلا. فكان من ذلك قضاءهم بادئ البدء على اللغة في بلاد الجزائر، حتى صار
المتجول فيها يكاد لا يصدق أنها كانت عربية يوما ما، ليحقق الاحتلال مرامه في هذه
البلاد، آملا وآخذا على عاتقه أن يواصل مسيرته، وأن يصير على هذا السمت في بلاد
الشام وجُل البقاع العربية، التي خسرت إبانه سيادة الحكم .
فماذا عن سيادة اللغة ؟!
لقد أخد الإستعمار بجل الطرق وبشتى الوسائل
في البحث عن أتفه الذرائع لتضعيف اللغة العربية وشل حركتها2 وزلزلة مكانتها داخل البلاد
العربية . فبدأ في التنقيب هنا وهناك عن مواطن الفرقة والإختلاف إيمانا منه بمبدأ فرق تَسُد إلى
أن سولت له نفسه، فوجد في اختلاف اللهجات الإقليمية ذريعة وطابقا من ذهب بل من
ألماز-إن صح التعبير- للقضاء رويدا رويدا على لغة العروبة، متبعا في ذلك أدق
المناهج والمخططات الدنيئة التي تحط من قيمة اللغة والإنسان العربيين على حد سواء
.
ومهد أول الأمر لتدريس مختلف اللهجات العربية في جامعاته، مستعينا
ومسترشدا بالمستشرقين والشرقيين الذين تواجدوا حينها ببلاده، فكان لهم الدور
الكبير والفعال في إشباع مراميه وغاياته. ومن أهم الجامعات التي سخرها الإستعمار
للعناية بتدريس هذه اللهجات نذكر: (مدرسة نابولي للدروس الشرقية،
انشئت سنة1727 ومدرسة القناصل التي
كانت تعنى بلهجات الشرق، أنشئت في فيينا النمساوية سنة 1754 ومدرسة باريس للغات
الشرقية بفرنسا 1759 وجامعة لندن لتدريس
العربية الفصيحة والعامية، في أوائل القرن 19.
وأسفرعن إنشاء كل هذه
الجامعات، نشاط حركة التأليف، خصوصا في الكتب الخاصة باللهجات العربية ومن أهم هذه
المؤلفات نذكر على سبيل المثال لاالحصر : (لهجة بغداد العامية :ماسينيون ولهجة بيروت العامية:ايمانويل
ماتسون ولغة مراكش العامية وقواعدها: ابن سميل وقواعد العامية الشرقية والمغربية
: كوسان دو برسفال وعامية دمشق: برغستراس).
وتأسست الإرهاصات
والبوادرالأولى لظهور العامية في الساحة العربية، داخل الحديث اليومي، إذ وجدت
العامية أو اللهجات المحلية بمعية الفصيحة، فكانت تستخدم في الشؤون العادية ويجري
بها الحديث اليومي .
وأمام هذه الهجمات بثنا
اليوم للسف نشهد بكل أسى وحسرة، تراجع واضمحلال عربيتنا الفصحى على مستويات
التعليم، دون حراك ، فأخذ من أخذ يدعو إلى التدريس بالعامية بدل الفصحى الفصيحة،
وأخذ كل شيء يتداول بالعامية أو لغة أجنبية أخرى، ابتداء من الإشهار والأفلام وانتهاء
بالأخبار.
ولعل
حجة الداعين إلى العامية اليوم، تتأسس على عجز الفصحى عن التعبير بدقة وعمق عن
خلجات النفوس وتصوير اللمحات العاطفية والأمثال الدارجة في كل قطر، ونسي هؤلاء أو
بالأحرى تناسوا أن تلكم اللغة التي يفرون منها هي لغة العروبة والقرآن. فالمشكلة
ليست بطبيعة الحال في عجز اللغة، بقدر ما تتجسد بجلاء في عجزهم هم عن مواكبتها.
0 الرد على "بين الفصحى والعامية "
إرسال تعليق