الفصــــل الثــــامــــن: الحاجــــــة إلى الخـــــوف
ن- الفصــــل الثــــامــــن: الحاجــــــة إلى الخـــــوف
في الفصل
الأخير، ينطلق الدارس من قصيدة النابغة الذبياني التي يستفتحها الشاعر بقوله:
يا دار ميــة
بالعلياء فالســـند أقوت، وطال عليها سالف الأبــــد
تعبر معلقة
النابغة الذبياني عن الإحساس بالتفرد والوحشة والاغتراب الذاتي والمكاني. وهذا
يوصلنا إلى أن الشاعر الجاهلي كان يعبر عن الإحساس بالشر والخوف. ويبدو” المجتمع
عقبة في سبيل الوحشة الضرورية التي تؤدي إلى تنبيه الذات لكل ما لها من قدرات. وقد
وجد الشاعر كل صوت سواه وحشة وعدما، وشعر من أجل ذلك بأنه في أعلى درجات الوعي
والإحساس بمشقة الوجود.
فالمجتمع إذاً
خرب إلا أن يكون صوت الشاعر، يسائله ويحييه. وإذا سكت الشاعر بدا المجتمع كله فاقد
المعنى. الشاعر يعطي الربع قدرة على النطق من ثنايا السياق. حقا إن ا لشاعر كالذي
يلتمس أحيانا صوتا سواه”.
إن الشعر يفصح
عن مخاوف الجماعة العربية وقلقها وتخوفها من مصيرها المحتوم. ومن هنا ذهب أرسطو
قديما إلى أن الشعر أكثر فلسفة من التاريخ.
وعليه ، فإن
النابغة” يقول ضمنا إن حياة المجتمع العربي معرضة للشر، وهي الآن أشبه ما تكون
بالأواري الذابلة والنؤي الذي لا يمنع السيل، والسجفين اللذين فقدا مالهما من شأن.
هذه هي الوظائف المعطلة إن أعجبك هذا التعبير- ومن ثم فإن السيل الغامض خليق بأن
يأتي على الحياة. لقد تتبعنا فيما مضى أحلام النبوءات الغامضة أو غير الغامضة ،
ولكن من المهم قبل أن نختم هذه الصحف أن نشير إلى الجانب الثاني من الصورة فالآمال
والرؤى الطيبة لا تعيش وحدها، وهناك دائما جدل وصراع بين بواعث التقدم وبواعث
التقهقر. ولا يمكن أن تبحث شئون الثقافة بمعزل عن حركة الأضداد.
وتتخذ
الحيوانات في الشعر الجاهلي أبعادا إنسانية وصراعية تحيل على الحرب والتطهير. فقصة
الثور والكلاب ” أعانت المجتمع من حيث لا يدري على أن يشبع بعض حاجاته العاطفية من
الحرب بطريقة خيالية وهمية. ولا شك أيضا في أن قصة الثور والكلاب كانت هي الدرس
الأول الذي علم المجتمع الجاهلي كيف يشك في فلسفة الحرب المتداولة.” كما تشير قصيدة
النابغة الذبياني إلى “نزوع واضح إلى عالم بعيد عن المنطق والمعقولية والإنسان.
والإنسان لا يتمتع في مثل هذا النزوع بكمال إنسانيته على نحو ما يتبادر إلينا
الآن. ولكن الشاعر هو الذي استطاع أن يهب المجتمع الجاهلي مثل هذا التحذير الغامض.
حذار من صورة النعمان. حذار من العدوان على فكرة الإنسان. حذار من اللبس بين فكرة
الفضيلة وطبائع الشيطان. حذار من عالم لا يعرف الخوف أو لا يرى للخوف مكانا في
نظام الحياة.”
وهكذا يتبين
لنا أن الدكتور مصطفى ناصف تعامل مع الشعر الجاهلي من زاوية أنتروبولوجية أسطورية،
إذ نظر إلى مجموعة من مكونات الشعر الجاهلي كرموز ومتعاليات جماعية مشتركة مترسبة
في ذاكرة الإنسان العربي تؤرخ لمجتمعه وحضارته ، وتعبر عن ماضيه وحاضره ومستقبله
بكل أتراحه وأفراحه. ومن ثم، يقدم لنا الدارس الشعر الجاهلي لا كموصوفات حسية
ودوال سطحية ساذجة بل كرموز مجردة عميقة بعيدة عن الظاهر تتوغل في العقل الباطن
واللاشعور الجمعي من خلال استقراء ما هو روحي وديني وطقوسي وشعائري.
0 الرد على " الفصــــل الثــــامــــن: الحاجــــــة إلى الخـــــوف"
إرسال تعليق