الفصل الرابع: الشكل الجديد:
إذا كان لكل تجربة شعرية إطارها السوسيوتاريخي، فإن لها كذلك أدواتها التعبيرية ووسائلها الفنية التي تمدها بالقيمة الجمالية لتجعل
منها تجربة متميزة متكاملة في البناء العام للقصيدة واللغة وطريقة التعبير وتوظيف الصور البيانية والرموز والأساطير.
ولأن الشكل الفني ليس قالبا أو نموذجا أو قانونا، بل هو حياة تتحرك أو تتغير، فقد حرص الشاعر العربي الحديث على تجاوز الشكل القديم، فأقام بناءً من التحولات التي خلخلت العناصر الأساسية للشكل الشعري، مثل اللغة والإيقاع والتصوير... وهي
تحولات كان لها أثر كبير على سياق القصيدة وبنائها العام أيضا فما التحولات التي رأى المجاطي أنها أصابت عناصر الشكل الشعري في القصيدة العربية الحديثة؟
تطور اللغة في الشعر الحديث:
يرى أحمد المجاطي أن لغة الشعر الحديث تتصف بكثير من الخصائص التي لايمكن أن تظهر من دراسة ديوان واحد، بل تحتاج لكثير من التأمل و البحث في لغة الشعر الحديث، و هي الخصائص التي يسميها الناقد ب)المميزات الثورية للغة
الشعر الجديد( ومنها :
• النفس التقليدي في لغة الشعر الحديث: لغة
جزلة و عبارة فخمة و سبك متين، على غرار الشعر القديم،
وتبدو هذه الخاصية عند السياب في دواوينه القديمة و المتأخرة، خاصة قصيدته " مدينة بلا مطر" وقصيدة "منزل الأقنان " .
• البعد عن لغة الحديث اليومية: كما
عند أدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر وصلاح عبد الصبور...، إذ تبتعد لغة الشعر عندهم عن لغة الحديث الحية بعدا يمنح مفرداتها قيما ودلالات مغايرة لما تحمله في
الاستعمال الشائع .
• السياق الدرامي للغة الشعر الحديث: كما
نجد عند محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته " معزوفة لدرويش
متجول" إذ يشغل لغة درامية متوترة نابعة من صوت داخلي منبثق من أعماق الذات، ومتجها إليها .
التعبير بالصورة في الشعر الحديث :
لقد تجاوز الشاعر الحديث الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الإحيائيين، والصور المرتبطة بالتجارب الذاتية
عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير وتوظيف الصورة/ الرؤيا وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء .ولعل
تجاوز الشاعر للصورة البيانية قد ساهم في إبعاد تجاربه الشعرية عن دوق عامة الناس، مما منحهم نوعا من التبرير لوصف الشعر الحديث بالغموض.
تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث :
إن الشاعر الحديث وهو يسعى إلى بناء نظام موسيقي جديد، لم يكن يهدف إلى هدم الأصول الموسيقية الموروثة، بل كان غرضه أن يتحرر من بعض القيود بالقدر الذي يمنح له من الحرية ما يسعفه في التعبير عن عواطفه و أحاسيسه وفكره... و لاشك في أن ذلك القدر من الحرية الذي تمتع به قد أتاح له أن يطوع تلك القوانين و أن يطورها، و أن يضيف إلى الخصائص الجمالية للبحور التقليدية، خصائص جمالية أخرى تستمد أصولها من التطور الذي أصاب المضامين الشعرية نفسها
.
لقد وجد الشاعر نفسه، قديما، متقبلا خاضعا لقيود صرامة البيت وسياقه الهندسي، مما عطل تطور نظام موسيقى الشعر حتى أواخر العقد الخامس من القرن العشرين، حيث تحققت تطورات في الإطار الموسيقي للقصيدة العربية منها :
• تجاوز
نظام الشطرين لصالح السطر الشعري .
• السطر
الشعري قد يطول وقد يقصر بحسب ما يتضمن من نسق شعوري أو فكري .
• طول
ذلك السطر قد يتراوح ما بين تفعيلة واحدة وتسع تفعيلات .
• إذا
كان عدد التفعيلات في أية قصيدة تراثية محدداً ومحصوراً تتوزعه الأعجاز والصدور، فإن التفعيلات في القصيدة الحديثة تمثل عدداً لا يحيط به الحصر .
• ينظم
الشاعر الحديث على ستة بحور هي المعروفة بالصافية و هي: الهزج )مفاعيلن(، و الرمل )فاعلاتن(، والمتقارب )فعولن(، و المتدارك )فاعلن(، و الرجز )مستفعلن(، والكامل )متفاعلن(.
• أصبح
بمقدور الشاعر أن يستخرج من البحر الواحد أكثر من بناءٍ موسيقي واحدٍ .
• امتاز
نظام التفعيلة بالمرونة والطواعية .
• الخلط
بين البحور داخل قصيدة واحدة، في محاولة لتفتيت وحدة البيت فيها، كما عند السياب في قصائده من ديوان " شناشيل ابنة الجلبي"، وأدونيس في قصيدة" مرآة لخالدة" من ديوان " المسرح والمرايا ". يرى
أحمد المجاطي أن البحور المختلطة رغم ما تتوفر عليه من طاقات موسيقية كبيرة فهي لم تستغل لأسباب
منها :
مسألة الزحاف: تولد
إحساسٌ بالرتابة والملل ناتج عن اعتماد التفعيلة كوحدة إيقاعية ثابتة، ولتكسير حد القافية ومنحها مزيدا من التنوع والتلوين، لجأ الشاعر الحديث إلى الإكثار من استعمال الزحاف، فكان أن حصل الشاعر على أكثر من إيقاع من دون أن يلجأ إلى البحور المختلطة .
تنويع الأضرب: بهدف
التنويع في الإيقاع والتلوين في النغم، عمد الشاعر الحديث إلى :
• توظيف
تفعيلات تعود إلى أصل واحدٍ، كما في أبيات عبد الصبور )مستفعلن( .
• تنويع
الأضرب دون الاكتراث بقيود القافية .
• إدماج
بعض البحور المتشابهة في بحر واحدٍ، مثل: الرجز والسريع .فاعل
في حشو الخبب: تظل مسألة تنويع الأضرب والقافية تلوينات مقبولة وملتزمة بقوانين علم العروض، إلا أن الخروج عن هذه القوانين يتمثل في استعمال )فاعل( بدل )فاعلن( في حشو بعض أبيات الشعر الحديث، و هو خروج أصبح متفشيا في كثير من قصائد الشعر المعاصر الجديد، و مستساغا من قبل " الرأي العام" على حد تعبير كل من محمد النويهي وعز الدين إسماعيل .
مسألة التدوير: إن حركة
المشاعر والأفكار والأخيلة قد تأخذ شكل دفقة تتجاوز، في اندفاعها،
حدود الشطر أو البيت الشعريين، مما نتج عنه نتيجتين :
• الأولى: تبرز
في التعبير عن الدفقة دون الوقوع في التدوير، وبالتالي اللجوء إلى استعمال تفعيلة خماسية أو تساعية كما ورد عند نازك الملائكة وخليل حاوي .
• الثانية: وتظهر
في اتساع الدفقة الشعورية وبالتالي الوقوع في التدوير الذي يتخلص من صرامة البيت ذي الشطرين ومن انتظامه في نسق هندسي رتيب.
نظام القافية في الشعر الحديث :
يمكن تلخيص التغييرات التي مست القافية باعتبارها جزءاً من البناء العام للقصيدة في ما يلي :
• الالتزام
بالقافية باعتبارها نظاما إيقاعيا دون الالتزام بحرف روي واحد.
• الربط
بين إيقاع البيت وإيقاع القافية.
• التخلي
عن القافية باعتبارها المرمى الأفقي النهائي للجمل المختلفة، و جعلها محطة وقوف اختيارية تستجمع فيها الدفقة الشعورية أنفاسها .
• جعل
القافية لبنة حية في البناء الموسيقي العام للقصيدة.
• إخضاع
البناء الموسيقي لحركة المشاعر والأفكار.
• الابتعاد عن النزعة الهندسية الحادة التي عُرفت بها القوالب الموسيقية التقليدية.
ويرى الكاتب في آخر الكتاب أن الحداثة من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض، إلى جانب ما تتطلبه القصيدة الحديثة من إعمال للجهد واستلزام لذوق قرائي جديد، ثم انفصال هذا الشعر عن الجماهير ما دام لا ينزل معها إلى ساحة المقاتلة و النضال والصراع ضد قوى الاستغلال والبطش ولا يشاركها في معاركها الحضارية .
0 الرد على "الفصل الرابع: الشكل الجديد:"
إرسال تعليق