القراءة النقدية للمؤلف:
استعان الكاتب أحمد المجاطي بأكثر من منهج نقدي في معالجة ظاهرة الشعر العربي الحديث، ويمكن تحديد ذلك
كالتالي:
المنهج التاريخي: يقوم على ثلاثة أقانيم أساسية، قرأ بها النص الأدبي وهي: المجتمع/ الكاتب/ الأثر الأدبي، - واعتبار الأثر وثيقة عاكسة لحياة الكاتب ومجتمعه وعصره.
انطلق الكاتب في كتابه، في تتبّع الظواهر الشعرية المدروسة، والمرحلة التاريخية المرتبطة بها، أو التي مهدت لظهورها من مثل: نشوء الحركة الإحيائية '' كانت انطلاقة تقليدية تلتفت إلى التراث العربي '')ص (10كما تتبع نشوء
الحركة الوجدانية وكيف شقّت طريقها متأثرة بعوامل داخلية عربية، حيث كانت شخصية الفرد المصري'' تعاني من
انهيار تام على مختلف المستويات وأن طبيعة الفترة التاريخية كانت تتطلب منه أن يعيد الاعتبار إلى ذاته'')ص 18 (إلى جانب عوامل أجنبية متمثلة في الاطلاع على الآداب الغربية، والشعر العربي بالذات) ص 26 (كما يجد الكاتب في الواقع العربي المهزوم وظهور الحركات الاستقلالية وقيام أنظمة تقدمية عوامل تاريخية مباشرة أعلنت ميلاد الشعر العربي الحديث.
*المنهج الاجتماعي: يجد جذوره فيما يعانيه من التداخل بين الواقعي والاجتماعي. يهتم بالظاهرة الأدبية، يدرسها في علاقتها بالواقع ووظيفتها في المجتمع، يعين على فهم طبيعة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأديب ومعرفة عقيدته وإيديولوجيته. ازداد هذا المنهج فائدة في دراسة الأدب الحديث، ولهذا قام الكاتب ووضع فرضياته في ضوء عناصر هذا المنهج، فهروب الشعراء الوجدانيين من الواقع ومن الإنسان ومن الحضارة، هي نتيجة لسخطهم على قيم هذا الواقع، ولعل التلاؤم الذي سجله المجاطي بين الأشكال الشعرية وبين حركة المجتمع العربي دليل آخر على أن ظاهرة الشعر الحديث منتوج اجتماعي يعكس واقع المجتمع المريض.
*المنهج النفسي: يتميز بالنظر إلى الظاهرة الفنية من خلال العلاقة بين نفسية الأديب والأثر الفني. فحياة الأديب تعتبر مدخلا أساسيا لفهم هذه الظاهرة، لأنها انعكاس آلي للخصائص النفسية والذهنية لصاحبه. وفي هذا السياق يركز الكاتب تحليله على شخصية الشاعر ودفقاته الشعورية والنفسية يقول: ''إن موقف الشاعر من الذات ومن الكون ومن
الجماعة تمليه رغبته في الحياة والتجدد والانتصار على كل التحديات'')ص 190 .) على هذا النحو يستثمر الكاتب المنهج النفسي في فهم أبعاد التجربة، تجربة الشعر العربي الحديث شكلا ومضمونا.
*المنهج الموضوعاتي: يهتم بدراسة الموضوعات والإمساك بعناصرها الداخلية وامتداداتها الخارجية، وقد اعتمد الكاتب هذا المنهج في الفصلين الثاني والثالث.
الفصل الثاني: موضوعة الغربة والضياع وأهم المحاور التي اشتغل عليها الكاتب: الغربة في الكون الغربة في المدينة الغربة في الحب الغربة في الكلمة...
الفصل الثالث: موضوعة الحياة والموت، استخلص منها أربع موضوعات فرعية: التحول عبر الحياة والموت معاناة الحياة والموت طبيعة الفداء في الموت جدلية الأمل واليأس
...
الأسلوب: -
هو مجموع العناصر المتصلة بطريقة عرض المادة وشرحها وتحليلها، يقوم على عدة مؤشرات لفظية وخطابية:
الدقة: يميل الكاتب المجاطي في كتابه إلى حسن اختيار الكلمات والمفاهيم والمصطلحات والتعريف بها قصد تخليصها من العموميات التي تطبع بعض الكتابات السابقة عليه.
الإطناب: يتوسع الكاتب في عرض مضامين موضوعاته لضرورة معرفية ومنهجية إلى درجة الإطناب حتى يتبين المقصود ويدرك المعطى وتتضح النتيجة.
التماسك: المقصود به الاتّساق والتجانس بين أجزاء النص، وهذا ما تضطلع به الوسائل اللغوية
الشكلية من مثل: الضمائر وأسماء الإشارة حيث تنظم هذه الوسائل الفضاء وتكشف عن البناء الفكري والنسق المنهجي الذي يؤكده الكاتب، هذا فضلا عن الإحالة التي ينحصر دورها في تعيين المرجع.
الانسجام: هو مجموع الآليات الظاهرة والخفية التي تجعل متقبل خطاب ما قادرا على فهمه وتأويله، وفيما يلي أهم
مبادئ الانسجام: معرفة سياق الخطاب )عام/خاص(
مبدأ التأويل
مبدأ التشابه
الغرض أوالتيمة أ ونقطة البداية أ والتمركز التي
يتمحور حولها الخطاب.
إن الانسجام أشمل وأوسع من الاتساق، لأن بناءه يتطلب من القارئ صرف الاهتمام صوب العلاقات الخفية التي تنظم النص وتولده، ولقد جاء الكتاب منسجما إلى حد كبير في فصوله وأقسامه، وفي موضوعاته وتحليلاته وتأويلاته، وهي بالتالي عبارة عن أطروحة فكرية وتربوية موجهة إلى القارئ لاكتشاف القدرات واستلهام العبر.
طرائق العرض: -
يتوجه الكاتب إلى القارئ بأسلوب حجاجي بغية إثبات خصوصية الشعر العربي الحديث ويمكن تحديد معالمه كالآتي:
الاستنباط: يفتتح الكاتب فصوله النقدية في غلب الأحيان بمقدمات عامة يسعى من ورائها إلى ترجمة أهداف عامة من مثل:
* المعطيات التاريخية والاجتماعية والأدبية المفسرة للظاهرة.
* الاستشهاد بأقوال النقاد والباحثين والدارسين الذين اشتغلوا على الظاهرة.
المقارنة: تشكل المقارنة إحدى الوسائل الحجاجية التي اعتمد عليها المجاطي في دراسته وذلك من أجل استخلاص
أوجه الاختلاف والائتلاف ومن أمثلة ذلك:
* المقارنة بين مختلف التيارات الذاتية في قضية التفاعل مع القضايا القومية.
* المقارنة بين مفهوم الوجدان عند أصحاب جماعة الديوان.
* المقارنة بين تجربة الموت وتجربة الغربة.
الاستشهاد: يأتي الكاتب بأقوال وآراء الدارسين العرب والأجانب، قصد تدعيم أطروحته وشرحها وتفسيرها والتعليق عليها، وأغلب هذه الاستشهادات مقامية أي تصبّ في إطار خصائص الظاهرة المدروسة، كما أن الكاتب ينتقد بعض هذه الاستشهاد ويبين هشاشة بنائها الفكري والنظري والمنهجي.
القراءة التركيبية: -
ينطلق
أحمد المعداوي في هذا الكتاب من منهج تاريخي فني ينفتح فيه الكاتب على المناهج
الضمنية الأخرى كمنهج التلقي، والمنهج الاجتماعي. ويتمثل المنهج التاريخي في تحقيب
الشعر العربي زمنيا (الشعر القديم، والشعر الإحيائي، والشعر الذاتي، والشعر
الحديث) من خلال ربطه بالظروف التاريخية كربط الشعر العربي الحديث في القرن
العشرين بما عرفه العالم العربي من نكسات ونكبات وحروب وهزائم. أما المنهج الفني
فيكمن في تقسيم الشعر العربي الحديث إلى مدارس شعرية فنية التي حصرها الدارس فيما
يلي: المدرسة الإحيائية المرتبطة بالنموذج التراثي؛ الحركة الرومانسية ذات التوجه
الذاتي والتي تنقسم بدورها إلى هذه المدارس الوجدانية: مدرسة الديوان، ومدرسة
أپولو، ومدرسة المهجر؛ حركة الشعر الحر أو الشعر الحديث أو الشعر المعاصر. ويلتجئ
أحمد المعداوي إلى منهج التلقي أثناء الحديث عن عزوف القراء عن الاهتمام بالشعر
المعاصر أو ما يسمى بشعر الحداثة، ويرجع ذلك العزوف والابتعاد إلى هيمنة الغموض في
هذا الشعر؛ مما سبب في انفصال كبير بين المرسل والمتلقي، أو بين المبدع والقارئ.
ومن الأدلة على وجود هذا المنهج قول الكاتب:” غير أن النصفة تقتضي منا أن نسجل بأن
ثمة عدة عوامل حالت بين هذا الشعر وبين أن يصل إلى الجماهير العربية، ليتحول إلى
طاقة جبارة، شبيهة بالطاقة التي اعتدنا من الكلمة الصادقة أن تفجرها في كل
العصور" وتتجلى القراءة الاجتماعية في ربط المبدع ببيئته الاجتماعية ووسطه
الزمكاني، وربط الإبداع بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي كما يظهر
ذلك في حديثه عن تجربة الغربة والضياع التي ربطها بهزيمة العرب في حرب حزيران
ناهيك عن النكبات والنكسات التي عاشها العرب منذ 1948م، ومن الشواهد النقدية
الاجتماعية على ذلك قول الكاتب:” كانت هزيمة الجيوش العربية سنة 1948 مفاجأة من
الأمة لنفسها، وفرصة لمواجهة ذاتها مواجهة صريحة بإعادة النظر في كل ما يحيط بها، سواء أكان ثقافة أم سياسة أم علاقات
اجتماعية. لم يبق بين الناس، ولا في أنفسهم شيء أو قيمة لم تتجه إليها أصابع التهمة.
الحقيقة الوحيدة التي استقرت في كل قلب هي مبدأ الشك، الشك بعلاقة العربي بنفسه
وبما حوله، وبماضي أمته وحاضرها، حتى أوشك الشك أن ينال من علاقة العربي بربه.
د”.32ومن جهة أخرى، ينهج الكاتب منهج الظواهر والقضايا في دراسة الشعر العربي
الحديث والمعاصر، ويتضح ذلك جليا في عنوان الكتاب ” ظاهرة الشعر الحديث”، وتقسيم
الكتاب إلى مجموعة من الفصول الدراسية تتخذ طابع القضايا والظواهر الأدبية تتعلق
بالشعر الحديث صياغة ودلالة ( شعر الغربة والضياع، وشعر الموت واليقظة، والشكل
الجديد) ، وقد تمثل هذا المنهج في المغرب الأستاذ عباس الجراري ..
يتبين
لنا من كل هذا أن أحمد المعداوي يشغّل في كتابه المقاربة التكاملية المنبنية على عدة
مناهج نقدية تجمع بين الظواهر المضمونية والقضايا الشكلية في إطار رؤية تاريخية
اجتماعية فنية. علما أن طبيعة المرحلة التي أطرت كتابه
لم تعرف اكتمال النسق المعرفي والنقدي للمناهج الأدبية حينئذ، ولم تنتشر وتختمر أدواتها كما هو الشأن حاليا.
ومهما يكن من أمر فقد ساهم المجاطي في إغناء الخزانة العربية بكتابه هذا. وقدّم خدمة جليلة للشعر الحديث، في وقت كانت فيه المعرفة الأدبية والنقدية حول الشعر الحديث قليلة، كما قدم إضافة نوعية للنقد العربي عموما والنقد المغربي خصوصا، تسمح اليوم بالقول: إنّ المغرب لم يكن مجرد تابع لما يقال عن الشعر بالمشرق العربي، ولكنّه كان في شخص المجاطي رائدا.
0 الرد على "القراءة النقدية للمؤلف: "
إرسال تعليق