-->

تــحــلــيـل نــص " تموز جيكور" – بدر شاكر السياب (تكسير البنية)




لم يتوقف التطور الشعري عند الحدود التي رسمها زعماء المدرسة التقليدية، أو عند التحرر الجزئي من قيود القافية وخلع رداء موضوعات وأغراض الشعر القديم، بل ظهرت حركة جادة نادت بالتجديد الموسيقي فكسرت إيقاع البيت، وأحلت محله السطر الشعري المكون من التفعيلة، وغيرت المعالم الشكلية للقصيدة معتمدة على التوفيق بين الوحدة العضوية وتناسق موسيقى اللفظ، وكذا بين وظيفة الصورة في بناء الموقف والانفعال والتجربة. وكان جوهر هذا الشعر – شعر تكسير البنية- هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية، وما تعيشه الإنسانية المعذبة. فقد أصبحت القصيدة تجربة إنسانية، بما فرضت عليها من أزمات وأحداث سياسية وحروب أثخنت المنطقة العربية، دون نسيان ضياع فلسطين سنة 1948م، والإحباط الذي ران على الفكر العربي، وكذا الافتتان بحضارة الغرب وثقافته، خصوصا المدين الاشتراكي والوجود. كل هذه العوامل فرضت على الشاعر العربي الإذعان للتغيير والبحث عن بدائل تعبيرية للخروج من الأزمة وتوجيه سلوك القارئ وفكره وأسلوب حياته. ولقد كانت أربعينيات القرن الماضي زمن ولادة هذا الشكل لكن قواعده لم تترسخ إلا في الخمسينيات منه، بدءا بنازك الملائكة في قصيدة " الكوليرا"، والسياب في قصيدته " هل كان حبا؟"، لتتسع الدائرة بعد ذلك وتضم شعراء آخرين كصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان ومحمد الخمار الكنوني ومحمد السرغيني ومحمد بنيس وأمل دنقل. ويعتبر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب من أبرز الشعراء الذين انخرطوا في هذه المغامرة الفنية، وذلك من خلال مجموعة من دواوينه الشعرية التي نذكر منها: أزاهير ذابلة، وأساطير، وأنشودة المطر الذي أخذ منه النص.واعتمادا على الشكل الطباعي للنص الذي يعتمد أساسا على نظام الأسطر الشعرية المتفاوتة من حيث الطول والقصر، وعلى مصدره وصاحبه، ومن خلال عنوانه- الذي يتشكل من كلمتين: تموز وهو إله الخصب والحياة في الأسطورة البابلية، يرمز للشاعر، وبذلك فهو يجسد "الذات الفردية".و جيكور وهي اسم القرية التي ولد فيها الشاعر، فهي ترمز لقريته التي هي الوطن، كما ترمز " للذات الجماعية وأمته العربية بصفة عامة"- نفترض أننا إزاء شكل شعري جديد يكسر النموذج النمطي للقصيدة العربية التقليدية. فإلى أي حد استطاع الشاعر تمثيل تيار تكسير البنية الفنية للقصيدة التقليدية من خلال هذا النص؟ وإلى أي حد تمثل هذه القصيدة لجملة خصائص ومقومات تكسير البنية؟

تقودنا هذه الأسئلة والافتراضات إلى ولوج عالم النص الشعري، وتدفعنا من ثمة إلى تتبع مساراته ومنعرجاته الدلالية الخاصة، حيث يتمحور مضمون النص حول تجربة بدر شاكر السياب الشعرية  التي تتحدد مضامينها في المقاطع الثلاثة الآتية:

·        المقطع الأول: تمني الشاعر وأمله في مستقبل أفضل من الواقع السيئ والمأساوي الذي يعيشه .

·        المقطع الثاني: إيمان الشاعر بولادة جيكور وبعثها من خلال تضحيته عبر " الفداء".

·        المقطع الثالث: تشكيك الشاعر في بعث وولادة جيكور واستسلامه للهزيمة واليأس.

وهكذا نلاحظ أن مضمون النص مضمون جديد يختزل تجربتين أساسيتين هما:" تجربة الغربة والضياع"، وذلك من خلال أنواع الغربة الأربعة الأساسية: في الكون (ليس سوى العدم والعدم)، وفي المدينة (جيكور ستولد لكني لن أخرج فيها من سجني)، وفي الحب (وتقبل ثغري عشتار فكأن على فمها ظلمة)، وفي الكلمة ( ولساني كومة أعواد). " وتجربة الموت والحياة" التي تتجلى من خلال التيمات التي تهيمن على النص ( الشك، الأمل، اليأس، الحياة، الموت، التضحية،الفداء...).

وبالتحول إلى المعجم الشعري، والتأمل فيه، نجده ينقسم إلى حقلين دلاليين بارزين هما:

·        حقل دال على الحياة والأمل:يتدفق- ينساب- شقائق- قمحا- البرق- يضيء- النور- أنهض- أحيا- أسقى- تقبل ثغري- ستولد- يفيض لبدر- سيورق النور- سيضحك- أنغاما حلوة- الربوة- النخل-....

·        حقل دال على الموت واليأس: ناب الخنزير- يشق يدي- يغوص لظاه- دمي يتدفق- ملحا- ظلمة- يموت- العتمه- غصة موتي- ناري- سجني- ليل الطين- لن ينبض قلبي- لن يخفق- الدود- هيهات- كومة أعواد- العدم- الموت....

يتبين بعد هذه الدراسة أن الحقلين الدلالين شبه متوازيين وهما يعكسان لأفكار النص التي تطغى عليها المأساة والتي تعكس لنا من جهة أخرى قمة المعاناة التي يعيش تحت وطأتها. وقد عبر عن هذه المعاني بألفاظ سهلة وبسيطة، لكن تم إفراغها من حمولتها الدلالية المعجمية، وتم شحنها بدلالات شعرية جديدة منحتها وجودا إبداعيا يفتح لها أبعادا تخيلية، تغتني بها عند كل قراءة. كما أن العلاقة التي باتت تربط بين المفردات، أصبح من المتعذر التنبؤ بها مسبقا، لأن أفق الدلالة في القصيدة لم يعد قائما على التبليغ والإخبار، وإنما صار بناء تشكيليا يجعل المعنى أكثر من لون وشكل بكفية تتسع لطرق التلقي المختلفة للقراء.فالمعجم إذن يؤكد أن رؤيا النص ا تخرج ع معنى الموت واليأس. ومن جهة أخرى فهو يؤكد هوية النص باعتباره نصا حداثيا من جهتين: الجهة الأولى أن ألفاظه مألوفة لكن تراكيبه انزياحية تميل إلى الغموض. والجهة الثانية أنه ينحو منحيين متناقضين هما: الحياة/ الموت، والأمل/ اليأس.

وعلى المستوى الفني التخيلي يوظف النص كوكبة من الصور الشعرية التي تمزج بين ما هو بياني تراثي كالتشبيه والاستعارة، وبين ما هو حداثي كالرمز والأسطورة والانزياح لعرض دلالات النص وصبر أغواره. ففيما يخص المنحى الأول نقف عند التشبه في السطر الثامن والتاسع ( كالبرق)، والاستعارة في السطر السادس من المقطع الثاني (الجرن سيضحك للصبح)، والكناية في السطر التاسع من المقطع الثاني (الشيخ ينام على الربوة). وقد أدت هذه الصور وظيفتين هما: الوظيفة الانفعالية والوظيفة الوصفية لحرصها على المقاربة والمناسبة بين الطرفين.أما فيما يخص المنحى الثاني فقد لجأ الشاعر إلى توظيف الرمز فرمز الشاعر ب( الخنزير- ملحا- عتمة- ظلمة) في المقطع الأول للتعبير على اليأس والتشكيك في الحياة والأمل.وفي مقابل ذلك تأتي كلمات (جيكور ستولد- النور- القمح- النخل-اللحن...) للتعبير عن الأمل والحياة والانبعاث حتى ولو كان سبيل ذلك الصبر والتجلد بغية تحقيقه كما يرمز إلى ذلك النخل.لكن الشاعر استسلم في المقطع الأخير للانهزام وتبدو عليه علامات الانكسار ويخيم على نفسه اليأس وهذا ما عبر عنه بواسطة رموز( الملح- العدم- الموت-القتل..).كما لجأ السياب إلى توظيف الأسطورة باعتبارها معادلة موضوعية يقارن بينها وبين تجربته الشعرية التي يعيشها في خطيين متصاعدين ومتوازيين وهذا ما فعلة بدر شاكر السياب في نصه هذا، وقد يختبئ تحتها ولا يطفو على السطح سوى القصة الأسطورية.ولعل أسطورة (عشتار وتموز- وجيكور(رمز الأمة العربية)) تلخصان دلالتي الحياة والانبعاث والراحة النفسية للشاعر.إلا أن عشتار هنا انتشلت الشاعر من عالمه السفلي( الموت واليأس) إلى عالم الأمل والحياة.كما وظف الشاعر الانزياح الدلالي ومثال ذلك قوله ( ناب الخنزير يشق يدي- يغوص لظاه إلى كبدي) وفي هذه العبارة ورد الخنزير كناية على وحش مفترس سوف يخلق حالة فوضى وزعزعة وانكسار وتفرقة.أما اليد فهي رمز الالتئام والاجتماع وآلية للدفاع عن النفس.ونتيجة لذلك ارتفعت شدة الألم ليحرق لظاها ما تبقى من الكبد. وهذه الأخيرة توظف في الثقافة العربية كناية على كل ما هو عزيز على النفس ولا يمكن التفريط فيه.فهل يا ترى يريد الشاعر التعبير عن الجرح العميق في الأمة العربية والذي أحدثه الكيان الصهيوني وشتت به الأرض وفرق به القلوب إلى أن بلغ حد ذلك الانتكاسة في قلوب جميع العرب والمسلمين. وأما قوله (النور سيورق النور)  فهي كناية على التحول والخروج من حالة اليأس والألم والموت إلى وضعية الأمل والحياة.

وبالنظر إلى الجانب الإيقاعي الذي يتجسد في مظهرين، الإيقاع الداخلي والإيقاع الخارجي، لتستوقفنا عدة من الانتهاكات الفنية للشاعر على مستوى الإيقاع الخارجي، حيث حرص على تكسير البنية التقليدية للقصيدة العربية العمودية، وبنائها على الأسطر الشعرية المتفاوتة الطول والقصر، والمنظمة وفق مقاطع شعرية (ثلاثة مقاطع)، مع التخلي عن صراحة القافية والروي بالتنويع فيها استجابة لتبدل المواقف وتغيير العواطف، حيث نجد حرف الروي يتراوح ما بين (الدال والباء والقاف والراء والهاء)، والقافية مرة متواترة وأخرى متراكبة.أما الوزن فيظهر أن القصيدة جاءت على إيقاع تفعيلة المتدارك (فاعلن) حيث وظفت باستعمالات مختلفة، فتارة مخبونة (فعلن) وتارة مشعة (فعلن).هذا بالإضافة إلى تكسير الوقفة العروضية وذلك بالاعتماد على خاصية التدوير، وتكسير الوقفة الدلالية التي يتوقف فيها مقام المعنى في سطر معين على السطر الذي يليه وخير شاهد على ذلك قول الشاعر (لم يغد شقائق أو قمحا، ولكن ملحا..).

أما على مستوى الإيقاع الداخلي، فإن استقراءنا له يقودني إلى الوقوف على مظاهر التكرار، نحو تكرار حرف الروي الذي اتخذ صفات مختلفة ومخارج مختلفة بين المهموس والشديد والشفوي والأسناني. إضافة إلى تكرار الكلمات  (جيكور- عشتار- القمح- البرق- الموت- العدم...) ليبين جدلية الموت والحياة واليأس والأمل.أما فيما يخص مظهر التوازي، فنلمسه من خلال قول الشاعر: ( ستولد جيكور، جيكور ستولد- هيهات أن تولد جيكور)، إضافة إلى حضور التوازي التركيبي (لو أنهض، لو أحيا، لو أسقى آه لو أسقى .....).

وبانتقالنا إلى المستوى التركيبي، فسنجده يتحدد من خلال عناصر متعددة أهمها : الضمائر والجمل والأساليب. فبالنسبة للضمائر فقد جاءت متنوعة إشارة إلى تعدد الأطراف والمعالجة الشمولية. فحضر ضمير المتكلم (أنا) (يدي- كبدي- دمي ...)، وضمير المخاطب (أظل)، وضمير الغائب (هو). وقد هيمن على النص ضمير المفرد وهو ما يمكن تأويله برغبة الشاعر الالتزام بخاصية أساسية من خصائص لغة القصيدة الحداثية وهي خاصية (السياق الدرامي) حيث ينطلق الشاعر الحديث من الذات ويتجه إليها عكس التقليدي الذي ينطبق منها ويتجه إلى الخارج. ولأن القصيدة الحديثة لا بد فيها من الجمع بين الذات والجماعة، فإن التركيز على الفرد لا يكفي لحداثة القصيدة. بل ينبغي تجسيد الذات الجماعية أيضا، لذلك عمد الشاعر إلى توظيف وحدات لغوية دالة على العموم لتعويض النقص الحاصل في ضمير الجماعة وتعبير عن الذات الجماعية، لهذا لجأ إلى توظيف الرمز (جيكور) والأسطورة (تموز *عشتار) وأسلوب الجمع (أنغاما – النخل- الأوتار-).

وبالنسبة للجمل، فقد راوح الشاعر بين الجمل  الاسمية والفعلية. فالاسمية تدل على الثبات والسكون، ونمثل لها بقوله (ناب الخنزير- الموت والموت ...)، والفعلية التي تدل على الحركية والدينامية والتطور عبر أزمنة متنوعة. وقد استعمل الشاعر الجمل الاسمية للتعبير عن ثباته على الحالة المأساوية التي تتمثل في حالة العذاب والحزن والمعاناة والضياع والغربة. ولأن الشاعر لا يريد أن يستسلم لهذه المعاناة، بل عليه أن يجاهد من أجل تغيير وضعه، فإنه قام بمحاولة الانتقال من الموت في الحياة إلى الموت من أجل الحياة ،أي من الهزيمة إلى الانتصار، لكن محاولته باءت بالفشل. فكان توظيف الشاعر للجمل الفعلية دالا على هذا التحول والتغير الذي نكتشفه من خلال أزمنة الفعل (الماضي- المضارع- الأمر)، التي تشير إلى الحالات المتنوعة التي عرفها الشاعر بين الماضي من خلال صيغة( لم + الفعل المضارع) التي تدل على الماضي للإشارة إلى التاريخ الملوث. والحاضر من خلال صيغة المضارع (يتدفق- يخفق- يغوص...).والمستقبل من خلال صيغة( السين+ فعل المضارع) للتعبير عن أمله في البعث والحياة.

وبالنسبة للأساليب فقد زاوج الشاعر بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي. فالأسلوب الخبري في قوله مثلا (ناب الخنزير يشق يدي. ..) يخاطب العقل والفكر، وجاء به الشاعر من أجل الإخبار بتجربته وتقريبها لذلك استعان بأدوات التوكيد. ولتحقيق وظيفة الإمتاع لجأ إلى توظيف الأسلوب الإنشائي الذي يخاطب الشعور والأحاسيس.فأتى بأسلوب النداء  (يا جيكور- يا ليل..)، وأسلوب الاستفهام (متى يلد القمح؟ -أينبثق النور؟)، وأسلوب الأمر (أظل مسيل دمي)، وأسلوب التمني (لو أنهض، لو أحيا، لو يومض، لو أسقى). نلاحظ إذن تنوعا في الأساليب الأمر الذي يشير إلى تعدد المشاعر والحالات التي عرفها الشاعر على امتداد القصيدة: الشك، الأمل، القلق، اليأس، الحزن...

تأسيسا على ما سبق، إن النص الذي حللناه قصيدة شعرية تمثل خطاب النمط الحداثي وخطاب المعاصرة والتحديث، وتستجيب لمبدأ تكسير البنية ، وذلك أن كل مستوياتها البلاغية والدلالية والإيقاعية والتركيبية تكشف عن الحس التجديدي والنفس الحداثي داخل هذا النص. ولا يمكننا في نهاية هذا التحليل إلا أن نقر بأن الشاعر بدر شاكر السياب قد استطاع في هذا النص (تموز جيكور)، وعلى نحو فني مبتكرو مثير، التمرد على الثوابت الشعرية القديمة، والاعتماد على نظام الأسطر الشعرية التي كسر بها وحدة البيت الشعري وصرامة الوقفتين العروضية والدلالية. وقد استغل أيضا مختلف أشكال البياض وأدوات الترقيم، فضلا عن طرقه لموضوع جديد تمثل في التعبير عن تجربة الغربة والضياع وتجربة الموت والحياة. وقد استلهم – على سبيل التناص- مجموعة من الرموز التاريخية (جيكور – تموز- عشتار- الخنزيز...) مما حقق للنص وحدته العضوية والموضوعية. من دون أن تفوتنا الإشارة إلى لغته البسيطة والواضحة التي تميل إلى الإيجاز والاختصار، مقتربة من اللغة اليومية.أما من حيث الإيقاع الخارجي، فقد وظف الشاعر بحر( المتدارك) ملحقا به مجموعة من الزحافات والعلل، فضلا عن تكسير الوقفتين العروضية والدلالية المرتبطتين بالدفقة الشعورية للشاعر.

وعلى العموم، فقد قدم الشاعر نموذجا متميزا لتكسير البنية في القصيدة المعاصرة، وهذا ما يجعل منها مرجعا مهما للقارئ لمعرفة مظاهر التغيير التي لحقت المستويات الفنية للقصيدة العربي. ونضيف إلى ذلك إشعاع الشاعر بدر شاكر السياب ومساهمته في إغناء تربة الشعر العربي الحديث، مما مكنه من الريادة في هذا المجال، ووضع إحدى اللبنات في بناء صرح هذا الاتجاه التجديدي المساير للعصر والمستجيب لمتطلباته التي تميزت بالتوق إلى التحرر والانفتاح على مختلف الثقافات الإنسانية.

    

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "تــحــلــيـل نــص " تموز جيكور" – بدر شاكر السياب (تكسير البنية)"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات