-->

  البنية الدلالية لشخصية يوسف في القرآن الكريم والتوراة

دراسة مقارنة



ذة. سعاد الكتبية

مقــدمـــة:
قصة يوسف عليه السلام من القصص الدينية المأثورة، حظيت بعناية المشتغلين بتخصصات مختلفة، علم التاريخ، علم الاجتماع، فقه اللغة ومقارنة الأديان... تناولتها كذلك كتب التفسير اليهودية والإسلامية ، كتفسير الطبري، القرطبي وغيرهما. فصلت أحداث هذه القصة في التفسير الكبير لسفر التكوين "بريشيت ربا"، والمـدارش الكبيــر ( هامــــــــــدراش هكدول[1])، وسفر الاستقامة ( سفر هاياشار) ...
القصة الوحيدة من بين قصص الآباء، بعد إبراهيم عليه السلام، التي أفردت لها سورة بكاملها والتي تحمل اسم النبي يوسف عليه السلام .
بالنظر إلى المعاني العميقة التي تنطوي عليها، نعود، بعد أن سبق وقمنا بدراسة لغوية لأهم أحداث هذه القصة في القرآن والتوراة[2] ، للحديث عن أوجه التقابل والتباين بين النصين العربي والعبري، محاولين الوقوف على الكيفية التي تشكلت بها شخصية يوسف في فضاء القصة القرآنية والتوراتية، وطريقة بنائها داخل كل نص.                          
v   شخصية يوسف بين القرآن الكريم والتوراة
    نود أن نشير في البداية إلى أن القرآن الكريم استفتح قصة يوسف بمقدمة تمهيدية، ذكر فيها أن من آيات وبينات هذا الكتاب المقدس، ما ورد فيه من قصص لأنبياء لم يكن الرسول "ص" على علم بسيرهم، ليشرع في سرد أحداث القصة. فيما يتعلق بالتوراة، أثارت في قسمها الأخير من سفر التكوين، تفاصيل عن سيرة يوسف، قبل أن تتحدث عن نفس الأحداث المذكورة في القرآن.
            على الرغم من تشابه القصتين في أحداثهما الرئيسة ، إلا أن الاختلاف القائم في النص العبري، يتعلق بالأساس ببعض الجوانب التي تخص حياة وشخصية يوسف. مرد ذلك اختلاف الهدف من النص في المصدرين، فالتوراة ترى في سيرة يوسف إلى جانب سير آباءه وأجداده إبراهيم، إسحاق ويعقوب بداية التاريخ المقدس، أي الإرهاصات الأولى لنشأة الشعب المختار. على النقيض من ذلك، يعتبر النص القرآني سيرة يوسف جزء من تاريخ البشرية ككل. ما يشغله هو التركيز على وقائع بعينها من هذه السيرة بهدف حمل القارئ على استخلاص المثل والموعظة. فضلا على أنه يعرض من القصة ما يناسب الدعوة الإسلامية التي هي دعوة إلى الناس كافة وليست محصورة على شعب بعينه.
تنحصر قصة يوسف في شموليتها في النصين القرآني والتوراتي ، بين رؤيا يوسف وتحققها ، وبروزه كشخصية فاعلة على مسرح الأحداث حيث أصبح المشرف على أرض مصر برمتها، القائم على خزائنها. والرؤيا في القرآن، تفيد التجلي الإلهي الذي يظل حضوره قويا في قصة يوسف. 
من بين السمات التي طبعت هذه الشخصية[3]:
  1) قدرة يوسف " الخارقة " على تأويل الأحلام، وتحويلها إلى حقيقة، والوصول إلى الحل الذي سوف ينقذ مصر من آفة المجاعة، فكانت مكافأة فرعون، كما ذكرتها التوراة مادية، حين نزع خاتمه وجعله في يد يوسف:
          " ونزع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف "
         " ויסר פּרעה את טבעתו מעל ידו ויתן אותה על יד יוסף. "[4]      
ثم أردفها بسلطة معنوية لها قيمة كبرى، حين عبر فرعون عن علو منزلته لديه بقوله :
    " أنا فرعون، بدونك لا يرفع أحد يده ولا رجله في كل أرض مصر ".
   " אני פרעה ובלעדיך לא־ירים אישׁ את־ידו ואת־רגלו בכל־ארץ מצרים. "[5]
سوف يصبح يوسف إذا وزيرا، لا يعلوه إلا فرعون، يدير شؤون بيته وفي يده الخاتم الملكي، والعداؤون الذين يتقدمون مركبته ، ينادونه " أبرك "، " אברך " ، ولعلها كلمة من أصل مصري ، معناها " احذر"، أو " قلبك معك. بالموازاة مع النص التوراتي، أورد القرآن ما يلي : (( فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ))[6].
يتقاطع النصان في إبراز إعجاب فرعون/ الملك ، بشخصية يوسف، برجاحة عقله، وجاهزيته في إدارة أزمة المجاعة وتجاوز سنوات الجذب، مما دعا فرعون إلى الارتقاء بعلاقته بيوسف، إلى مستوى إقامته وتمكينه من أرض مصر بأكملها.
استعمل النصان لفظتي" السيطرة والتمكين" لتعميق هذا المعنى، أورد النص العبري عبارة فوق يده، " על־ידו "، عوض بيده " בידו "، وهو تعبير مجازي لتعميق معنى التمكين، وتوليد معاني أخرى. وعليه فاتصال על ب יד في العبرية، يصير المعنى الوظيفي  ل יד أكثر تمكنا وقوة، وهو ما يحمل على الافتراض أن مختلف مظاهر التمكين المعبر عنها في التوراة، كخلع فرعون خاتمه من يده ووضعه في يد يوسف، وجعل طوق الذهب في عنقه وغيرها[7]، لها معاني دقيقة داخل النص .
من بلاغة النص القرآني ، استعماله لفعلي، أقمتك / ومكنا .(( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ))[8]، الخاليين من جميع الأدوات المصاحبة للفعل، من دون أن يحتاجا لأداة أو قرينة نحوية لتحقيق ذلك .                    
فيما يتعلق بلفظة " ليوسف "، فاللَّامُ المقترنة لكلمة " يوسف " لها أثر يمكن مقارنته بالنظر لموقعها في مقدمة المفعول به " يوسف "، وذلك لإبرازه وإحكام وضعه في السياق، ما يعبر عن حسن تقدير وإعجاب فرعون ليوسف لما سمع كلامه.
الاختلاف القائم بين النصين كون التوراة رأت في المكانة التي حظي بها يوسف لدى فرعون، تجسيدا للإنسان أو " المثل اليهودي " وإشارة ضمنية لمبدأ المكافأة، مكافأة يوسف على قدرته في تأويل الرؤى وإخراج مصر من أزمة المجاعة، وعليه تم تغييب عنصر التقوى والإيمان، الذي طبع شخصية يوسف في النص القرآني، والذي بهديه فسر القرآن الحظوة التي نالها يوسف بأرض مصر، باعتباره من المحسنين، (( ولما بلغ أشده، آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين))[9].
 وكذلك ، ((  نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ))[10] .
هذا الحضور القوي للعنصر الديني في سلوكيات معظم شخصيات القصص القرآني ، نجده بصفة أقل في النص التوراتي .
2) – يوسف نبي في القرآن وأب في التوراة[11] :        
نظرا لاختلاف منهج القرآن في قصة يوسف عن منهج التوراة، تفتقد شخصية يوسف في العهد العتيق لنفس المكانة والمنزلة التي تحتلها في القرآن. قصة يوسف في التوراة لها اتجاه واضح، يغلب عليه السرد القصصي الروائي، حيث يبدو العهد العتيق مجيبا على كل التواريخ والأحداث الفرعية التي تخص أبناء وأنبياء بني إسرائيل، فكانت قصة يوسف حلقة أو جزء من هذا التاريخ .
تتداخل الشخصيات في النص العبري، حيث يتم إقحام شخصية أخرى " يهوذا " على القصة الأصلية، مما يؤثر على تسلسل الأحداث وترتيبها ترتيبا منطقيا، كما هو الشأن في القرآن. فالقارئ يصطدم بتوقف القصة لمدة إصحاح كامل، الإصحاح 38، ثم يتواصل الحديث عن شخصية يوسف دون أن تشير التفاسير اليهودية، "مدراشيم" إلى ذلك، أو تذكر سبب حدوث هذا التداخل أو البتر.
يستفتح القسم الأخير من سفر التكوين، حديثه عن استقرار يعقوب بأرض كنعان، ثم يتناول بكثير من الإطناب سيرة يوسف وإخوته كامتداد لقصة الأب، وهو ابن سبع عشرة سنة، إلا أنه لا يحظى بالمكانة التي يستحقها كنبي، ما جعل شخصيته كبطل رئيسي داخل النص، سكونية، غير متطورة. سيصبح مجرد أحد آباء بني إسرائيل، أكثر منه نبي، حين سيتحول من آخ إلى وسيط بين آل يعقوب وبين فرعون، كما تشير الى ذلك نصوص التوراة. 
قال يوسف لإخوته :
" أنا ذاهب إلى فرعون لأخبره: إن إخوتي وبيت أبي الذين كانوا في أرض كنعان قد قدموا إلي ".  
   "אעלה ואגידה לפרעה ואמרה אליו אחי ובית-אבי אשר באנרץ-כנען
      באו אלי."[12]
وكذلك : " وأدخل يوسف يعقوب أباه فأقامه أمام فرعون، فبارك يعقوب فرعون ".
          " ויבא יוסף את-יעקב אביו ויעמדהו לפני פרעה ויברך יעקב
            את-פרעה."[13]
بل إن معنى الأبوية تظل حاضرة، حين يجعل يوسف نفسه بمنزلة الأب، يقول :
         " الله أرسلني وصيرني كأب لفرعون ".
             " האלהים וישימני לאב לפרעו."[14]
بالموازاة مع النص القرآني، يغلب على هذا الأخير عنصر التعميم دون التفصيل، فالسرد في قصة يوسف، يقوم وفق ترتيب منطقي، يصعب معه بتر أي جزء من أجزاءه، غايته التركيز على شخصية يوسف، باعتباره نبي وذلك منذ بداية القصة حتى نهايتها. إن التدخل الإلهي، يعبر عنه في النـص بعبارات كثر، و((الله عليم بما تعلـمون))[15]،  و((الله غالب على أمره))[16]، وغيرها من الآيات. هذا التدبير الإلهي لا نجده في القصة التوراتية إلا بقدر ضئيل . ولأن نبوته ظاهرة، (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم من أهل القرى ...))[17]، ظل يوسف حاضرا على مدار القصة، حتى في المشاهد التي كان غائبا فيها. نذكر على سبيل المثال، حين حلم الملك حلمه، احتيج ليوسف لتأويله، وحين تحدث الملك مع النسوة اللائي قطعن أيديهن، كان بسبب يوسف، الذي كان وقتها في السجن، وحتى حين رجع الإخوة، إلى أبيهم يعقوب، يخبرونه بفقدانهم لأخيهم بنيامين ظل الأب يبكي وقد تذكر يوسف((يا أسفى على يوسف، وابيضت عيناه من الحزن، فهو كظيم))، وكذلك (( قالـوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا، أو تكون من الهالكين ))[18]. مشاهد أخرى تردد فيها اسم يوسف 25 مرة، ولم يذكر اسمـه خارج السورة إلا مرتين، في سورة الأنعام، 84، وغافر 34. مقارنة بالنص العبري، الإصحاح 37/50، الذي ازدحمت فيه أسماء آل يعقوب ، رجالا، نساء وأبناء، الذين استقروا بين كنعان ومصر.
3) – يوسف المخلـــص :
من بين الصفات التي شكلت شخصية يوسف، والتي تبدو آثارها غير ظاهرة في النصين القرآني والتوراتي، إنما نستنتجها من سياق القصة، صفة المخلص.
اتخذ مفهوم الخلاص أبعادا نفسية وأخرى مادية، اختلفت دلالاتها. فالنص القرآني، يعتبر المكافأة التي حظي بها يوسف، بعد تأويله الحكيم لرؤيا الملك، خروجه من الجب، ليخلص الأرض والعباد جميعهم من آفة المجاعة. فيوسف لم يكن مخلصا لبني جلدته فحسب بل لآل إبراهيم وللمصريين كافة، في غياب لخلفية التمييز والانتقاء، وحضور قوي للبعد الأخلاقي.
يمكن كذلك قراءة مفهوم الخلاص من جانبه النفسي، تخليص امرأة العزيز من خطيئتها بتبريئها ليوسف، تخليص إخوته من عقدة الذنب بتوبتهم ....
على النقيض من ذلك ، يضيق مفهوم الخلاص في النص العبري ليقتصر على بني إسرائيل، فيصبح خروج يوسف من السجن، بمثابة الجسر الذي سوف يعبره ليخلص آل يعقوب من الموت إلى الحياة بعد أن ألحت عليهم ظروف الجفاف .
تقول التوراة على لسان يوسف :
  " أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه للمصريين، والآن فلا تكتئبوا ولا تغضبوا لأنكم بعتموني هنا ، فإن الله قد أرسلني أمامكم لأحييكم ... ثم يستطرد : أرسلني الله قدامكم ، ليجعل لكم بقية في هذه الأرض وليحييكم" .
        " אני יוסף אחיכם אשר- מכרתם אתי מצרימה:ועתה אל-תעצבו
          ואל-יחר בעיניכם כי-מכרתם אותי הנה כי למחיה שלחני אלהי
          לפניכם....וישלחניאלהים לפניכם לשום לכם שארית בארץ   
          ולהחיות "[19].                              
ورود لفظة حياة "חיים" باشتقاقاتها، نحيى ، أحييكم، ثم نقيضها " موت ، نموت، بشكل متواتر في النص العبري[20] ، يكشف عن هذه النظرة الخلاصية، التي لا تقتصر على نجاة يوسف، بعد موته الرمزي بإلقائه في غيابة الجب، وعودة الحياة إلى الأب الذي مات حسرة وأسى على ابنه المفقود، بل تتعداها إلى إبقاء شعب بأكمله على قيد الحياة، وتتجاوز العهد العتيق كله، لتنفذ بشكل واسع في العهد الجديد.
4) – الثبات على المبدأ والتمسك بالقيم الإنسانية :
 تبدو المشاهد التصويرية ذات الملامح الإنسانية، أكثر في النص القرآني، من خلال رد يوسف بأسلوب بليغ على قول الملك: (( إنك اليوم لدينا مكين أمين)). فكــان جـواب يوسف: 
(( اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم ))[21].
مغزى " حفيظ " في سياق النص، ذو ثقة، وحافظ للأمانة، و" عليم " عالم بتدبير إدارة الدولة، وشؤون الرعية بما يحقق العدل والمساواة بين الناس.
اعتمد القرآن الإيجاز في حديثة لما آل إليه أمر يوسف بأرض مصر من قوة وتمكين، ليبلغ المعنى المقصود. فتبرز شخصية يوسف متماسكة، عادلة، شديدة التواضع. استعمل النص بدقة لفظة " التمكين"، " ومكنا ليوسف في الأرض"، التي تخلو من معنى السيطرة والاستبداد، فيصير معناها، تجسيد لحكمة ربانية، وتدبير إلهي لإنقاذ الأرض والناس من الفناء، بعدما اشتدت سنوات الجفاف .
   يذكر القرآن كذلك أن يوسف أصبح " عزيز مصر" أي ممسكا بيده أسباب العزة والنفوذ، مشرفا على مصر وثرواتها. بكثير من التواضع والخضوع لله، يلهج لسانه بالشكر والامتنان لما أتاه من الملك :
  (( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ))[22].
وعليه، يكون النص القرآني، قد استطاع بأسلوب تصويري بياني، التركيز على شخصية يوسف المعنوية، التي تنطوي على سلوكيات وقيم أخلاقية، تصلح للعبرة والموعظة، ما يحفظ لها سموها، واحترامها لدى القارئ.
يتقاطع النصان العبري والقرآني في توظيف صيغة الأمر التي ستغير من لهجة خطاب يوسف الموجه إلى فرعون، حيث ستكشف عن رغبته في أن يصبح المدبر لشؤون الدولة. تسعفنا الآية الكريمة (( اجعلني على خزائن الأرض))، في فهم واستخلاص المعنى الخفي للتركيب العبري :
  ليبحث فرعون عن رجل فهيم، حكيم يقيمه على أرض مصر"
   "ירא פרעה איש נכון וחכם וישתהו על-ארץ מצרים"[23]
استعملت التوراة لفظة " פרעה " فرعون، التي تحيلنا ضمنيا على الأنا المتحدثة  "يوسف " والواقعة مع " فرعون " على طرفي نقيض، فكل ما يقال عن هذا الأخير، تعد الأنا  المتكلمة خارجة عنه، وعليه فإدخال فرعون" له دلالة قوية على عمق التضاد بين يوسف وفرعون. إن عبارتي،נבון وחכם، فهيم/ حكيم،  تلميح للأنا المتحدثة في مقابل أنت فرعون.
الاختلاف القائم بين النصين، هو أن التوراة تبخس من شخصية يوسف، فتجعله مستبدا،  شديد السطوة، فعلى الرغم من عظيم نفوذه، يظل مجرد موظف لدى فرعون، يجمع الأموال والزرع، ويصادر أراضي المصريين، في سبيل إرضاء سيده/ فرعون. تذكر التوراة على لسان المصريين الذين قدموا يستعطفونه ، ويطلبون القوت:
" لماذا نموت نحن وأراضينا أمام عينيك، اشترينا وأراضينا بالخبز، فنصير بأراضينا عبيدا لفرعون، وامنحنا زرعا فنحيا ولا نموت ..."
 " למה נמות לעיניך גם-אנחנו גם-אדמתנו קנה-אותנו ואת-אדמתנו
  בלחם ונהיה אנחנו ואדמתנו עבדים לפרעה ותן-זרע ונחיה ולא נמות..."[24]
تستعمل التوراة في مواضع مختلفة لفظة " משל ב "، التي تفيد في المعجم العبري، ابن شوشان، "تسلط " و"تجبر"، لوصف المكانة والنفوذ المطلق الذي أصبح ليوسف على أرض مصر، بعد أن جعله فرعون على خزائنها، نذكر للتمثيل لا للحصر، ما ورد في الإصحاح 45/8 .
"... الله أرسلني، وصيرني كأب لفرعون وكسيد على بيته كله، وكمتسلط على كل أرض مصر".
"... האלהים וישימני לאב לפרעה ולאדון לכל-בי ומשל בכל-ארץ מצרים."[25] 
 ما يثير الانتباه كذلك، ورود العبارة في مكان آخر، خارج سياقها، في الحوار الذي دار بين يوسف وإخوته، بعد أن كشف لهم رؤياه، التي تتضمن معنى الخضوع والامتثال، فيجيبون بعد أن احتدم غضبهم، وزاد بغضهم :
" أتراك تحكم أو تتسلط  عليها " .
"המלך תמלך עלינו אם- משול תמשל בנו"[26] .
   في النص التوراتي تسقط شخصية يوسف في التناقض، وتبتعد عن روح العدل الإنساني، ففي الوقت الذي يعطف على أهله، يكرم وفادتهم ، ويزودهم بالطعام، يقسو على المصريين، ويحولهم إلى عبيد لفرعون، بعد تجريدهم من أراضيهم:
     "وزود يوسف أباه وإخوته، وسائر أهله بالخبز". 
"ויכלכל יוסף את- אביו ואת-אחיו ואת כל- בית אביו לחם."[27]
  "واشترى يوسف جميع أراضي مصر لفرعون... لأن المجاعة اشتدت عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب، فاستعبده من أقصى حدود مصر إلى أقصاها ".
 " ויקן יוסף את-כל-אדמת מצרים לפרעה ...כי-חזק עלהם הרעב ותהי
    הארץ לפרעה : ואת –העם העביד אתו לערים מקצה גבול-מצרים
    ועד-קצהו. "[28]
إن مفهوم " الخروج " في النص العبري،- خروج يوسف من السجن- وإن ظلت دلالته خفية ومخالفة لمعناه في القرآن الكريم، ليس في الأصل سوى تثبيت بني إسرائيل على هذه الأرض، فأول حضور لهم بمصر، كان على يد يوسف .
  " وأسكن يوسف أباه وإخوته، وأعطاهم ملكا في أرض مصر، في أجود أرض منها،هي أرض رعمسيس..."  .
  "ויושב יוסף את-אביו ואת-אחיו ויתן להם אחזה בארץ מצרים במיטב
  הארץ רעמסס..."[29]
دخول آل يعقوب إلى مصر يمهد، بحسب النص العبري، لنشأة الشعب المختار، يبدو ذلك من خلال رؤية ليلية، وهي التجلي الأخيرة في عصر الأجداد، حيث يأمر الله يعقوب بالنزول إلى مصر، كما أمر إبراهيم قبله بالتوجه إلى أرض كنعان، تقول التوراة :
" أنا الله، إله أبيك. لا تخف أن تنزل إلى مصر، فإني سأجعلك هناك أمة عظيمة. أنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك منها، ويوسف هو الذي يغمض عينيك". 
       "אנכי האל אלהי אביך אל-תירא מרדה מצרים כי-לגוי גדול אשימך שם: אנכי ארד עמך מצרימה ואנכי אעלך גם-עלה ויוסף ישיתי ידו על-עיניך."[30]  
رحلة بني إسرائيل إلى مصر، هي بمثابة المعبر الذي انتقل منه آل يعقوب من حياة البداوة إلى التحضر، حقيقة أشار إليها القرآن الكريم على لسان يوسف، وهو يشكره تعالى على نعمه يقول :
(( ... يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ))[31].  في حين يغيب ذكر ذلك في النص العبري، وإنما نستنتجه من السياق. لقد وجد بنو إسرائيل بمصر نمطا مختلفا عن نمطهم البدوي الرعوي، يستفاد ذلك من خطاب يوسف لأخوته:
" أنا ذاهب، " صاعد" إلى فرعون لأخبره وأقول له : إن إخوتي وبيت أبي الذين كانوا في أرض كنعان، قد قدموا إلي ، والقوم رعاة غنم، لأنهم أصحاب ماشية " .
     "ויאמר יוסף אל-אחיו ואל-בית אביו אעלה ואגיד לפרעה ואמרה אליו אחי
       ובית-אבי אשר בארץ-כנען באו אלי : והאנשים רעי צאן כי-אנשי   
       מקנה היו".[32]    
ثم أمرهم بأن يجيبوا فرعون بمثل أخبره به، إذا سألهم عن حرفتهم، أما التبرير الذي ساقه يوسف هو :
       "כי-תועבת מצרים כל- רעה צאצן"[33]
  حاولنا ترجمة العبارة بما يناسب سياق النص الذي وردت فيه وذلك على نحو :
  " كل راعي غنم هو عند المصريين بغيض ودنيء."
يدور الزمان في القصة، ليعيد أحداث العهد القديم، فيجتمع الإخوة والأب بيوسف، ليستقروا في وطنهم الجديد، إلا أن فكرة العودة التي تتكرر باستمرار في أسفار العهد العتيق، ستظل قائمة. إن ولاء يعقوب وآله لأرض كنعان، وليس للوطن الذي آواهم واحتضنهم. فها هو يعقوب يطلب من بنيه نقل جثمانه بعد موته إلى أرض آباءه :
" سألتحق بأجدادي، فادفنوني مع آبائي.... في أرض كنعان " .
 "אני נאסף אל-עמי קברו אתי אל-אבותי....בארץ כנען"[34].
ولا تنس التوراة في نهاية القصة، وصية يوسف لإخوته، بدفنه كذلك في موطنه الأصلي :
" واستحلف يوسف بني إسرائيل وقال: " إن الله سيذكركم"، فاصعدوا عظامي من ههنا".
   "וישבע יוסף את-בני ישראל לאמר פקוד יפקוד אלהים אתכם והעלתם
        את-עצמתי מזה"[35].
خلافا للتوراة، اختلفت رمزية المكان/ أرض كنعان في النص القرآني لاختلاف مقاصدهما. ولأن غايته وعظية، يولي النص القرآني أهمية قصوى للعبرة ، حيث تتحول هذه الحادثة التاريخية المحدودة في الزمان والمكان والأشخاص، إلى قضية وقصة إنسانية اجتماعية، تصلح للموعظة والاعتبار في كل زمان ومكان. وتنتهي القصة القرآنية بتوجيهها النفس البشرية لمعاني أسمى، كما تنتهي بدلالاتها الإسلامية، في دعاء يوسف : (( أنت ولي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما وألحقني بالصالحين.))[36]
خـــاتــــمة:
نختم بالقول إن النصين القرآني والتوراتي، يعتبران حافزا للبحث لاختلاف مقاصدهما وغايتهما، وإن يبدو ظاهريا أن القصة التوراتية تسير في توازي مع القصة القرآنية، وتماثلها في أدق جزئياتها، ما جعل بعض الدراسات المقارنة للقصتين تفتقر إلى الموضوعية كدراسة André chapiro الذي اعتقـد بوجــود عناصر هاكاديــة ( أسطورية ) في مقابلته النص القرآني بالنص التوراتي[37].

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على " "

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات