-->

القراءة التحليلية للنص النظري " مدخل لدراسة المسرح " – نبيل حجازي

 


 


يعد المسرح بحق أبا الفنون، فهو يحتوي في طياته على القصة والسرد، وعلى الموسيقى والغناء، وأشكال الرقص، كما كان في القديم يعد من أرقى فنون الشعر نظرا لاعتماده اللغة الفنية الراقية... ولعل تعدد العناصر وتداخل الفنون في العمل المسرحي يطرح إشكاليات على مستوى إعطاء تعريف دقيق لهذا الفن، حيث وجدنا من يركز على اللغة، وعلى النص المسرحي في ذاته، ويعد ذلك جوهر الإبداع المسرحي، كما وجدنا من يركز على عملية العرض، وما يرتبط بها من تمثيل وديكور وإضاءة... ومهما اختلفت تعريفات المسرح فإنه لا جدال حول الوظيفة الجليلة التي يِؤديها في تربية الناس وتهذيب أذواقهم وأخلاقهم. وإذا كان الخطاب المسرحي قد فرض نفسه، كظاهرة، من خلال تراكم الأعمال الإبداعية، فهذا لا ينبغي أن يحجب الدور الذي لعبته الكتابات النظرية والنقدية من أجل ترسيخ هذا الفن وتوجيهه وتطويره. ويندرج في هذا السياق ما يقدمه الكاتب المصري "نبيل حجازي في هذا النص الذي يحمل عنوان "مدخل لدراسة المسرح". ويوحي هذا العنوان بأن الكاتب يحاول أن يقدم مقاربة نظرية، يعتبرها منطلقا وأساسا (مدخلا) لدراسة المسرح، واستجلاء عناصره وخصائصه الفنية المختلفة. إذن، فما القضية التي تناولها الكاتب في هذا النص؟ وما العناصر المكونة لها؟ وما العناصر الأساسية والثانوية للخطاب المسرحي؟ وما الطريقة المنهجية المتبعة، والأساليب الحجاجية المعتمدة في معالجة هذا الموضوع؟ وإلى أي حد استطاع الكاتب أن يقدم لنا تصورا نظريا واضحا حول الخطاب المسرحي؟

تكشف لنا القراءة الأولية للنص عن أن الكاتب سيبرز لنا العوامل التي ساهمت في نشأة الفن المسرحي، والوظائف التي تؤديها المحاكاة في علاقتها بالفن المسرحي، والعناصر الأساسية التي تشكل جوهر العرض المسرحي. ويمكن رصد أهم العناصر المكونة للقضية الأدبية فيما يلي:

·        انطلاق الكاتب من رأي مشهور لأرسطو ورد في كتابه المعروف بــ "فن الشعر"، وفيه يحدد العوامل التي ساهمت في نشأة الفن المسرحي، والتي يلخصها في سببين هما: اتخاذ الإنسان من المحاكاة وسيلة فطرية للتعلم، والتذاذه بمحاكاة الطبيعة وعناصرها. واقرب وسائل المحاكاة هي تلك التي استعمل فيها الإنسان جسده (وجوده المادي)، مما ساهم بشكل كبير في ظهور التمثيل المسرحي.

·        تحديد الوظائف التي تؤديها المحاكاة في علاقتها بالتمثيل المسرحي فحصرها في: تمكين الإنسان من اكتشاف مشاعره، ومساعدته على فهم أعمق الأفكار والأحداث، فضلا عن مساعدة متلقي العرض المسرحي على التخفيف من مخاوفه.

·        رصد العناصر الأساسية التي تشكل جوهر العرض المسرحي، ومختلف العناصر الثانوية التي يرى إمكانية الاستغناء عنها في عملية العرض المسرحي، مخالفا بذلك جوهر المسرح اليوناني.

وإذا انتقلنا للحديث عن الخصائص الفنية للعرض المسرحي، والعناصر المكونة له، كما حددها الناقد، وجدناه يحصي ثلاثة عناصر أساسية لعملية العرض المسرحي هي: الممثل، والمتفرج، والمكان. كما يحصي عناصر أخرى ثانوية هي: اللغة، والمخرج المسرحي، والممول، والإضاءة، والملابس، والموسيقى. وكل هذه العناصر الأساسية منها، والثانوية، تظل مرتبطة كما جاء في بداية النص بمفهوم أساسي هو مفهوم المحاكاة. ولذلك يلزمنا، لفهم عملية العرض المسرحي، الوقوف عند هذه العناصر والمفاهيم بالتعريف والتحديد:

1.     المحاكاة: هي مفهوم حدد مدلوله أرسطو بقوله:" الملحمة والمأساة، بل الملهاة... وجل صناعة العزف بالناي والقيثارة هي كلها أنواع من أنواع المحاكاة في مجموعها". والمقصود بالمحاكاة الطريقة التي تحاول بواسطتها هذه الفنون نقل مظاهر الطبيعة، وأحداثها، وتمثل الأفكار والمشاعر الإنسانية.

2.     الممثل (المحاكي بالأفعال: يعد الممثل دعامة أساسية في عملية العرض المسرحي، فال يمكن تصور مسرح بدون ممثل أو ممثلين، إنه الشخص الذي يحاول بواسطة صوته، وحركاته، وإشارته... محاكاة الأفعال، والأفكار، والمشاعر المتضمنة في المسرحية، متوخيا نقل كل ذلك إلى الجمهور والتأثير فيه.

3.     المتفرج (المتلقي): هو الشخص الذي يتلقى ما يعرض عليه في المسرح فيترجم ذلك إلى أفكار ومشاعر، ومن هنا يكتسب العرض المسرحي قيمته بمقدار تأثيره في متلقيه، هذا المتلقي الذي لا يبقى سلبيا أمام ما يتلقاه، بل يعيد قراءتهن وتأويله من خلال إسقاطاته، وتراكماته الثقافية والحضارية، وباختصار من خلال ما يسمى في نظرية التلقي بــ 'أفق الانتظار".

ويرى الكاتب أن إسقاطات المتلقي وتأويلاته هي التي تضمن للعرض المسرحي حياته وتمنحه روحه. أما أرسطو فيرى في وظيفة المسرح تكمن في تطهير المتلقي من بعض الانفعالات الضارة، مثل الخوف والرحمة، حيث يرى أن "المأساة هي محاكاة... تثير الرحمة والخوف، فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات.

وإذا كانت العناصر السابقة عناصر أساسية، فإن هذا لا يعني غياب عناصر أخرى تحضر في العرض المسرحين والتي اعتبرها الكاتب ثانوية، ويمكن توضيح دلالات هذه العناصر من خلال الجدول التالي:

اللــــــغـــــة

المقصود بها اللغة التي تتكلم بها الشخصيات، وقد كانت لغة المسرح القديم لغة شعرية راقية تعتمد أشكال الإيحاء والتصوير البلاغي، كما كانت تنتظم وفق أوزان مؤثرة. لكن دور اللغة في المسرح الحديث تراجع لصالح العناصر المتعلقة بالعرض، وأصبحت اللغة في الغالب لغة نثرية قريبة من لغة الحديث اليومي.

الــــمــوسـيـقى

كانت الموسيقى تلعب دورا مهما في المسرح اليوناني القديم، حيث كانت الجوقة المؤدية للأناشيد تعد من شخصيات المسرحية، وفي المسرح الحديث تطورت التأثيرات الموسيقية لتتناسب مع المشاهد، ومع الأحداث، ومع مشاعر الشخصيات.

الــمــلابس

يتولى تصميم الملابس شخص متخصص، حيث يختار الملابس المناسبة للمشاهد والشخصيات من حيث الأشكال والأوان.

الــمــمول

هو الشخص الذي يتولى ما يتعلق بالمسائل المادية، كشراء أدوات الديكور، وأداء الواجبات المتعلقة بفضاء العرض، ومتطلبات الممثلين.

الإضــاءة

هي العناصر الضوئية التي تسلط على خشبة المسرح أو الممثلين، والتي تختلف من حيث اللون والشدة والحركة، وباختلاف المشاهد والوضعيات.

المخرج المسرحي

هو الشخص الذي يتولى توزيع الأدوار على الممثلين، وتحديد مختلف أشكال الأداء، وترتيب المشاهد.

وقد سلك الناقد، في تقريبنا من خصوصية الفن المسرحي، منهجا استقرائيا انطلق فيه من الجزئيات المتعلقة بهذا الفن، منتهيا إلى تقرير تصوره العام. وهكذا وجدناه في بداية النص يتحدث عن نشأة الفن المسرحي، وعن المحاكاة المسرحية وخطواتها، ووظائفها، قبل أن ينتقل إلى تحليل العناصر الثلاثة الجوهرية: الممثل، المكان، والمتلقي، لينتهي في الأخير إلى تأكيد أن جوهر المسرح هو هذه العناصر الثلاثة، مقصيا باقي العناصر وفي مقدمتها اللغة إلى مراتب دنيا.

وقد استعان الكاتب للدفاع عن أطروحته حول الفن المسرحي بعدة وسائل حجاجية لعل أهمها أسلوب التعريف، حيث وجدنا الكاتب، عبر نصه، حريصا على ضبط الخصائص المسرحية والتعريف بها، خاصة تلك التي اعتبرها جوهر الفن المسرحي (الممثل، المكان، المتلقي). كما حضر أسلوب المقارنة، وذلك من خلال مقارنة الناقد بين الممثل والمذنب الذي يحاكي كيفية ارتكابه لجريمته، والمقارنة بين المسرح اليوناني والمسرح الحديث. وقد دعم الناقد منهجه الحجاجي من خلال الاستشهاد بآراء أرسطو حول المحاكاة، والحضور اللغوي في الشعر المسرحي، فضلا عن استحضاره لبعض المرجعيات النقدية الحديثة كنظرية التلقي التي وظفها لإبراز كيفية تفاعل المتلقي مع ما يعرض عليه من مسرح، كل هذا  مع الحرص على التبرير والتعليل لبعض المسائل الإشكالية، ومن أمثلة ذلك تبرير سيطرة فن القول في المسرح اليوناني، بأن " إبداعات القول قد سيطرت في تلك الآونة على فن العرض المسرحي..".

وفي ارتباط بهذا الأساليب الحجاجية، حرص الناقد على ضمان قدر  كبير من تماسك نصه واتساقه من خلال الاستعانة بمجموعة من الروابط اللغوية، كالإحالة  بواسطة الضمائر وأسماء الإشارة: (هي، هو، هذه، ذلك، هاتين، هنا...)، والوصل بين الكلمات تارة وصلا تطابقيا (الواو، مثل)، وتارة وصلا عكسيا (بل، ولكن، إلا، أن، إلا أننا، وهذا لا يعني...)، وتارة وصلا سببينا منطقيا (لهذا، لذلك، بحيث، حيث إن، فذلك، لأن...).

يتضح لنا من خلال التحليل السابق، أن الناقد قد حاول تقريبنا من خصوصية الفن المسرحي، فربطه أولا بالمحاكاة، التي تفيد إعادة تشكيل الفن المسرحي للواقع في حلة جديدة، قصد الوصول إلى ما هو ممكن، وتجاوز ما هو كائن. وقد حصر الكاتب عناصر الفن المسرحي في ثلاثة هي: الممثل والمكان والمتلقي، معتبرا باقي العناصر:كاللغة والإضاءة والمخرج والملابس... عناصر ثانوية لا يمكن إدخالها في تعريف جوهر الفن المسرحي. وقد رأينا كيف أن الكاتب قد ضمن لنصه أساسا حجاجيا متينا من خلال الإستعانة بعدة أساليب حجاجية: كالتعريف، والمقارنة، والاستشهاد بآراء النقاد القدامى والمحدثين ... وقد دعمت وسائل الاتساق والإحالة والربط بمختلف أنواعه. هذا الجانب الحجاجي، الذي زاد من قوته حرص الكاتب على التعليل والتبرير.

على أن الرأي الذي قدمه الكاتب لا يخلو من طرح عدة إشكاليات: فكيف يمكن تهميش الجانب اللغوي في المسرح إلى درجات دنيا، واعتباره مكملا إضافيا قيمته مثل قيمة الإضاءة والملابس؟ لا شك أن الكاتب هنا يتحيز لصالح العرض المسرحي في مقابل إقصاء النص. فاللغة تلعب دورا أساسيا في تقريبنا من الشخصيات وأفكارها ومشاعرها، وقد صرح بذلك الناقد بوضوح في نهاية النص. فلماذا يجب علينا تهميش اللغة؟ وما قيمة العرض المسرحي إذا حذفنا منه الجانب اللغوي، وتصورنا شخصيات المسرحية بكماء صماء لا تعبير إلا من خلال الحركات؟.

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "القراءة التحليلية للنص النظري " مدخل لدراسة المسرح " – نبيل حجازي"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات