القراءة التحليلية الشمولية: جرد الموضوعات: الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث
القسم الأول: نحو مضمون ذاتي .
الشعر العربي القديم: أمران
مهمان يحددان التطور في الشعر العربي، عند أحمد المجاطي، هما: الحرية
والاحتكاك بالثقافة الأجنبية. وفي الشعر العربي القديم لم يتحقق هذا التطور إلا جزئيا، في مرحلتين: الأولى في العصر العباسي، مع شعراء رفعوا لواء الحداثة الشعرية والتحول كأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبئ . والثانية
في شعر الموشحات الأندلسية خاصة
على مستوى الإيقاع العروضي .
ومع هيمنة معايير القصيدة العمودية التي كان يدافع عنها نقاد اللغة ظل هذا التجديد محدودا وضئيلا . ومن
هنا نستنتج أن الشعر العربي القديم ظل في مجمله ثابتا ومحافظا على الأصول، ولم يحقق تطورا ملحوظا بسبب انعدام الحرية الإبداعية وضعف
الاحتكاك بالثقافات والآداب الأجنبية .
التيار الإحيائي: كانت
العودة إلى التراث الشعري العربي في مراحل إشراقه، أهم مرتكز يقوم عليه التيار الإحيائي قصد تجاوز ركود عصر الانحطاط ومخلفات كساد شعره والخروج من الأزمة الشعرية التي عاشها شعراء عصر النهضة . ويعتبر
محمود سامي البارودي أهم زعماء هذا التيار، إذ نظم شعره متوسلا بالبيان الشعري القديم، مما جعل هذا التيار حركة تقليدية محافظة جراء مجاراتها طرائق التعبير عند الشعراء القدامى، وضعف اطلاع أصحابه على الآداب الأجنبية .
التيار الذاتي : تداخلت عدة عوامل سياسية واجتماعية وتاريخية، للدفع نحو تجاوز شعار العودة إلى التراث، والأخذ بشعار البحث عن الذات الفردية والإعلاء من شأنها، مما أنتج تيارا ذاتيا في الكتابة الشعرية العربية الحديثة، تشكل عبر الجماعات الأدبية الآتية :
جماعة الديوان : وتضم كلا من العقاد وشكري والمازني، الذين آمنوا بأن الشعر وجدان، لكنهم اختلفوا في التعبير عن هذا الإيمان، مما أعطى تمايزا في مضامين إبداعهم الشعري، يمكن تجسيده كالآتي:
العقاد: مفكر قبل
أن يكون شاعرا "غلَّب
التفكير على الوجدان والشعور، قصيدة "الحبيب" غلب فيها المنطق العقلي على ما هو وجداني داخلي .
المازني: من طبيعة
الشعر عنده أن ينطلق من النفس بصورة طبيعية، والتعامل مع الأشياء تعاملا مباشرا أساسه الانفعال المباشر دون تدخل من العقل أو توغل في أعماق النفس .
شكري: تأمل في أعماق الذات، وانصرف عن الاهتمام بالعقل الخالص، والمعاني جزء من النفس تدرك بالقلب لا بالعقل، مما أنتج لديه شعر الاستبطان واستكناه أغوار الذات .
تيار الرابطة القلمية: تجاوز مفهوم الوجدان مع شعراء الرابطة القلمية، الذات ليشمل الحياة والكون في إطار وحدة الوجود الصوفية، فقالوا بوجود روابط خفية، تشد الكائن الفرد إلى الكون جملة، وأن من شأن هذه الروابط الرفع من مكانة الفرد، وتقريبه من الذات الإلهية حتى تغدو العودة إلى الذات عبارة عن تفتح العالم بكلياته وجزئياته، وقد اختلفت سبل العودة إلى الذات عند كل من جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبي ماضي:
فنعيمة: انقطع إلى التأمل في نفسه، مؤمنا بأن ملكوت الله في داخل الإنسان، ولا مجال لمحاولة التحرر من الفساد، والصلاح والطلاح شيء واحد، ووجودهما ضروري كوجود الليل والنهار .
أما جبران: فقد آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة، وهرب بأحلامه إلى الغاب، وقدم عن المجتمع المتحضر صورة حافلة بالضجيج والاحتجاج والخصومة .خلافا
لأبي ماضي: الذي استعصم بالخيال وركن إلى القناعة والرضى، وفر من الحضارة المعقدة إلى القفر أو إلى الغاب وعاد إلى نفسه ليتأسى روحيا .رغم
معاصرة شاعر الرابطة القلمية للمد القومي العربي، إلا أنهم ظلوا حبيسي الذات والمضامين السلبية مثل اليأس والخنوع والاستسلام والقناعة، مخالفين حقيقة الوعي القومي المستلزم للأفعال الإيجابية والتغيير الثوري وترجمة المشاعر إلى الواقع العملي .
جماعة أبولو : أسسها
الدكتور أحمد زكي أبو شادي سنة 1932 ، ارتكزت في مفهومها للشعر على التغني بالذات والوجدان، إذ
رأت في ذات الشاعر مصدر ما ينتج من شعره، بشكل يسمح بتعرف هذه الذات من خلال النظر في شعر صاحبها. يرى أحمد المجاطي أن معاني الشعر عند أصحاب هذه الجماعة تتميز بالسلبية نظرا لتعاطيهم مع مواضيع الطبيعة والهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة، ومن المدينة نحو الغاب، واصطباغ شعرهم بالخيبة والحرمان واليأس وبالمرارة والمعاناة من الاغتراب .
انتهت جماعة أبولو بالانفصال والتمزق والهجرة والفرار، فتعددت الاتجاهات المختلفة التفاصيل، والمتحدة عند انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه .
النتيجة: نصل مما سبق إلى أن ميزة الشعر الذاتي عند جماعة الديوان هي التمايز والتفرد والتغني بشعر
الشخصية، وليس دعوة لإبداع شعر متشابه الوسائل والغايات. ولعل مرجع اهتمام الجماعة بالعنصر الذاتي أمران: أولهما إعادة الاعتبار للذات المصرية التي كانت تعاني من الانهيار التام، أما الثاني فيتجلى في انتشار الفكر الحر بين مثقفي ومبدعي مصر، فعبروا عن أنفسهم باعتبارها قيما إنسانية ذات وزن .
القسم الثاني: نحو شكل جديد .
اتخذ تطور القصيدة العربية منحى متكاملا، ارتكز على مبدإ العودة إلى الذات، إذ أدرك الشاعر الوجداني أن كل تجربة جديدة لا تعبر عنها إلا لغة تستوفي صيغتها التعبيرية وصورها البيانية وإيقاعاتها الموسيقية من التجربة نفسها. ومن تم راح يعتمد للتعبير عن تجربته الذاتية أشكالا تختلف في خصائصها عما ألفه التيار التقليدي من أشكال كان مصدرها امتلاء الذاكرة و تقليد النموذج ويمكن إجمال خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية في ما يلي :
سهولة التعبير: راح الشاعر
الوجداني الحديث يقترب من أحاديث الناس، موظفا لغة الحديث و لغة الشارع كما عند العقاد في قصيدة "أصداء الشارع" من ديوان " عابر
سبيل"، إذ أصبحت السهولة صفة أساسية في أسلوبه.
الصورة البيانية: صارت تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي، يريد بها شرح عاطفة أو بيان حالة، بعد أن كانت عند الإحيائيين زخارف وأصباغا تراد لذاتها .
الوحدة العضوية: ابتغى الشاعر الوجداني ربط العواطف والأحاسيس والأفكار ببعضها ربطا يظهر القصيدة بمظهر الكائن الحي، لكل عضو من أعضائه دور هام يحدده مكانه من الجسد، فربط القافية والوزن، مثلا، بالأفكار والعواطف الجزئية
لا بموضوع القصيدة بوصفه كلا موحدا، فنظموا قصائد ذات موضوع واحد وقواف متعددة وأوزان مختلفة .
هذه المحاولات التجديدية انحصرت على مستوى الشكل بفعل الحملة التي شنها النقاد المحافظون على هذه الحركة التجديدية النامية
ومحاولاتها المستهدفة للغة والأوزان والقوافي والصور البيانية .
نتيجة: اصطبغت نهاية هذه التيارات التجديدية بالحزن إن على صعيد المضمون أو الشكل :
فعلى صعيد المضمون: انحدر إلى مستوى البكاء والأنين والتفجع والشكوى، وهي معان ممعنة في الضعف وتكشف عما وراءها من مرض وخذلان .وعلى صعيد الشكل: فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة ومميزات مكتملة ناضجة، وكان فشله بفعل النقد المحافظ الذي استمد قوته مما كان الوجود العربي التقليدي يتمتع به من تماسك ومناعة قبل نكبة فلسطين، والذي سيتغير بعد النكبة.
0 الرد على "القراءة التحليلية الشمولية: جرد الموضوعات: الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث "
إرسال تعليق