الموضوع: نص شعري-2- " مقابلة خاصة مع ابن نوح" الفئة المستهدفة: 2 باك آداب + 2 باك ع إنس
تــحــلــيـل نــص " مقابلة خاصة مع ابن نوح" – أمل دنقل
عرفت القصيدة
العربية المعاصرة ابتداء من خمسينيات القرن العشرين تحولات فنية وجمالية استطاعت
بواسطتها تجاوز القصيدة العربية التقليدية، وذلك عن طريق تكسير شكلها النمطي
الصارم، وبنيتها الفنية المتوارثة منذ أقدم العصور الأدبية،سواء على مستوى المعجم،
أو مستوى الإيقاع، أو مستوى الصورة، أو مستوى الدلالة ... ويعتبر كل من محمود
درويش وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وأحمد المجاطي ومحمد السرغيني ... الخ.من أبرز
الشعراء الذين انخرطوا في هذه المغامرة الفنية. ولعل الشاعر أمل دنقل واحد من
أولائك الشعراء الذين أسهموا في إرساء قواعد الحداثة الشعرية العربية، وذلك من
خلال مجموعة من دواوينه الشعرية التي نذكر منها: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة،
أقوال جديدة عن حرب البسوس، أوراق الغرفة 8 . فبمجرد إلقاء نظرة على الشكل الطباعي
للنص، نلاحظ أنه يتكون من أسطر شعرية متفاوتة من حيث الطول والقصر، كما يتضمن
بياضات وفراغات، وعبارات مكتوبة على يسار الصفحة... ولا شك أن هذه المعطيات
القليلة تعتبر مؤشرا كافيا يجعلنا نفترض من خلاله أننا إزاء شكل شعري جديد يكسر
النموذج النمطي للقصيدة العربية القديمة.إذن، ما الأفكار والمضامين التي يدور
حولها النص؟ وما حقوله الدلالية؟ وما خصائصه الفنية؟ وإلى أي حد استطاع الشاعر من
خلاله أن يكسر البنية الفنية للقصيدة العربية التقليدية؟
إذا انطلقنا من
عنوان النص (مقابلة خاصة مع ابن نوح)، وحاولنا استكناه أهم أبعاده الدلالية
والإيحائية،فإننا نفترض أن القصيدة تتحدث عن لقاء يتم بين طرفين (أو أكثر) قد تكون
الذات الشاعرة بصيغتها الفردية (أو الجماعية) طرفا ضمنيا أو صريحا فيه، ويبدو أن
هذا اللقاء لا يخلو من جسامة المغامرة وخطورته تفترضها طبيعته ونوعيته الخاصة مع
شخصية مثيرة ذات مرجعية تراثية: تاريخية ودينية، وهي شخصية ابن نوح عليه السلام
بكل ما تثيره من تداعيات وتناقضات درامية نتيجة ذلك الصراع المحتدم بين آصرة العقيدة
(الموقف الديني)، وآصرة القرابة (الموقف الإنساني) لحظة حلول الطوفان، ومبادرة نوح
عليه السلام عندئذ بدافع من عاطفته الإنسانية (الأبوية) إلى ثني ابنه عن قراره،
لما عقد العزم على الاعتصام على الجبل بدل ركوب السفينة رفقة أبيه وجموع الناجين
ممن هم معه على ظهرها. فهل تصح هذه الافتراضات والملاحظات الأولية على المسار الذي
اختطه الشاعر لنصه الشعري؟ أم أن هذا الأخير قد عمد إلى توظيف هذه الوقائع
والأحداث التاريخية والدينية لقصة نوح عليه السلام على نحو مغاير للأصل، أي في
سياقات تعبيرية ودلالية جديدة ومختلفة استدعتها تجربته الشعرية الخاصة؟
وهكذا تقودنا هذه
الأسئلة والافتراضات إلى ولوج عالم النص الشعري، وتدفعنا من ثمة إلى تتبع مساراته
ومنعرجاته الدلالية الخاصة، ومحاولة تكثيفها ضمن الوحدات التالية:
ü
الوحدة الأولى (س:1): الإخبار بوقوع حدث "الطوفان" بنبرة
باعثة على الشك والارتياب.وهو ما يسمح للمتلقي بالاستفسار عن الأسباب والحيثيات
الداعية إلى ذلك، بحيث يفترض أن يطرح أسئلة من قبيل: من أين، وكيف جاء هذا
الطوفان؟ ولماذا؟ ومتى؟ وما طبيعة ومستوى العلاقة التي تربطه بــ "نوع عليه
السلام"؟
ü
الوحدة الثانية (س: 2-17):تهديد الطوفان للمدينة بكل مكوناتها
وتفاصيلها المختلفة بالتلاشي والدمار،حيث المدينة تغرق تدريجيا في لجة الماء
المتصاعد، وفي نبرة ساخرة يستعرض الشاعر منذ البداية كل ما كان يبدو مجللا بهيبة
السلطة وقوة نفوذها معرضا للضياع بفعل المد الجارف للطوفان: البنوك – التماثيل- بوابة
السجن- دار الولاية... وإذ يتابع الشاعر ببصره العصافير وهي تجلو بعيدا عن المدينة
تتابع صور المعيش اليومي متلاحقة ببؤسها وأعطابها وهشاشتها.
ü
الوحدة الثالثة (س:18-24): تصوير الخطر المتزايد للطوفان وآثاره
المهولة على المدينة، وردود أفعال سكانها حيال هذا الخطر الطارئ. وهنا لا
يجد" الحكماء" بدا من الفرار نحو السفينة طلبا للنجدة بأنفسهم من هول
الطوفان، وهو الموقف الانهزامي الذي يدينه الشاعر ضمنيا، والذي تتقاسمه حفنة من
المتخاذلين والنفعيين التافهين (المغنون- المرابون...).
ü
الوحدة الرابعة (س:25-34): تناقض مواقف ساكنة المدينة بصدد ما يهددهم
من دمار الطوفان المتعاظم خطره، وتباين مواقف وأشكال مواجهتهم لزحفه. وهنا يكشف
الطوفان عن موقفين متعارضين، الأول موقف من يسميهم الشاعر بــ"الجبناء"
الذين لا يرون حلا للمعضلة الطارئة غير الفرار باتجاه السفينة، والثاني يتقاسمه
الشاعر مع شباب المدينة، فيتمثل في مبادرتهم إلى لجم جموح المياه ببناء سدود
الحجارة لعلهم "ينقذون الوطن".
ü
الوحدة الخامسة (س:35-47): محاورة الشاعر "سيد الفلك"
وإعلامه إياه بقراره الأخير حيال ما يجري.
ü
الوحدة السادسة (س: 48- 54): موقف الشاعر من المصير النهائي للمدينة
ومآلها بعد حلول الطوفان.وفيها يفضي النص الشعري عند نهايته إلى ما حل بالشاعر،
ومن هم في صفه من شباب المدينة الصامد في وجه الطوفان ومقاومة موجه العاتي، وهو ما
يصطلح الشاعر على تسميته بـ "قلبه الذي غدا وردة من عطن" من جراء ما حل
به من "نسج الجروح ولعنة الشروح"، والذي اختار لمصيره الأخير الرقاد في
هدوء فوق بقايا المدينة معرضا عن إغواء السفينة، رافضا لدعوات صاحبها له بالفرار
والنجاة، ومصرا كذلك على حب الوطن حتى النهاية (بعد أن قال: لا للسفينه ... وأحب
الوطن).
وبالتحول
إلى المعجم الشعري للنص والنظر المتأمل والدقيق إلى أبرز حقوله الدلالية انطلاقا
من مستوى الصراع الذي يخوضه "ساكنة المدينة" ضد الطوفان، وطبيعة ومستوى
المواجهة التي تقتضيها هذه المعركة،وكذلك خصوصيات المواقف المتباينة التي تتعلق
على وجه التحديد بـــ: الفرار أو الصمود ، أمكن القول، إن المعجم يتألف من
حقلين دلاليين هما:
Ø
الألفاظ والعبارات الدالة على حقل الفرار: تفر العصافير، العصافير تجلو رويدا رويدا، الحكماء
يفرون، السفينة، المغنيون، سائس خيل الأمير، المرابون، قاضي القضاة، حامل السيف،
راقصة المعبد، جباة الضرائب، عشيق الأميرة، مستوردو شحنات السلاح، الجبناء يفرون،
سيد الفلك، ...الخ.
Ø
الألفاظ والعبارات الدالة على حقل الصمود: كنت، كان شباب المدينة،يلجمون جواد المياه، ينقلون
المياه على الكتفين، يستبقون الزمن، يبنون سدود الحجارة، ينقذون مهاد الصبا
والحضاره، ينقذون الوطن،لنا المجد، نحن الذين وقفنا، نتحدى الدمار، نأوي إلى جبل
لا يموت، يسمونه الشعب، نأبى الفرار، نأبى النزوح، قلبي الذي نسجته الجروح، يرقد
الآن فوق بقايا المدينة، لا للسفينة، أحب الوطن.
يتبين لنا، من خلال ما تقدم من
معطيات معجمية، أن الصراع الذي يعرضه النص الشعري يستلزم طرفين تتناقض مواقفهما حد
الاصطدام والمواجهة، ففي الوقت الذي يقرر الفريق الأول ( الحكماء/ الجبناء)
الهرولة باتجاه السفينة طلبا للنجدة الشخصية، يرفض الطرف الثاني (شباب المدينة)
الفرار من مقاومة خطر الطوفان، وفي مقدمة صفهم الشاعر الذي أعرض عن دعوة "سيد
الفلك" له بالركوب على متن سفينته، مقررا بذلك الصمود والمواجهة، وتحدي
الدمار برفقة الشباب مطمئن النفس والبال –عند الإيواء- إلى جبل لا يموت –على حد
تعبير الشاعر – يسمونه الشعب.
وعلى المستوى الفني التخيلي، عمد
الشاعر إلى توظيف صورة فنية كبرى شديدة التركيب والتعقيد هي " الصورة –
الأم" من خلال اقتباسه قصة "نوح عليه السلام" مع إدخال عدد من
التحويرات الفنية الممكنة حتى تستجيب بذلك لمتطلبات التجربة الشعرية الخاصة في
النص، وما تفرضه الرؤيا الجمالية والتعبيرية من شروط وأبعاد وخصائص محددة تستدعيها
طبيعة الرؤى والمواقف المتصارعة في النص الشعري. كما عمد الشاعر أيضا في هذه
الصورة الفنية الكبرى إلى توظيف واستثمار عدد من الصور الجزئية (الصغرى) على نحو
عضوي ومتفاعل، كالمجاز المرسل (المدينة تغرق شيئا فشيئا)، والاستعارة
( كان شباب المدينة يلجمون جواد مياه الجموح/ نتحدى الدمار/ نأوي إلى جبل لا
يموت يسمونه الشعب/ قلبي الذي نسجته الجروح/ قلبي الذي لعنته الشروح ...الخ ).
ومن ثمة نرى أن الشاعر قد عمد، بوجه عام في عرض هذه التجربة المثيرة والحبلى
بصراعاتها وتناقضاتها الدرامية، إلى توظيف قصة "نوح عليه السلام"، سواء
تم له ذلك انطلاقا من مرجعيتها التاريخية والدينية القرآنية ( سورة الشعراء
الآيتان: 119و120 – وسورة هود- الآيات: 36- 47 ...)، أو التوراتية (سفر
التكوين- الإصحاحات: 6-9) ...لإدانة سياسة الانفتاح الاقتصادي في بلده مصر،
والبلاد العربية عامة،بكل مترتباتها
وتبعاتها الاجتماعية والإنسانية الكارثية انطلاقا من سبعينيات القرن الماضي،
وبذلك تتناسب هذه القصة التراثية ، من خلال كل التحويرات "التناصية"
الممكنة التي أدخلها الشاعر عليها، مع خصوصيات الموقف والتجربة الفنيين في النص
الشعري، لنلاحظ في هذا السياق الموقف الفردي الخاص بابن "نوح" عليه
السلام، كيف صار،على نحو درامي تصاعدي ومتدرج، جماعيا يتعلق بشباب المدينة، والشعب
ككل. وكذلك نلاحظ كيف تحول هذا الموقف من الدلالة السلبية الضيقة – التمرد على
الأب وعصيان أوامره- إلى موقف إيجابي يكشف عن مستوى الصلابة في الصمود ومواجهة
العدو الخارجي، والإخلاص لواجب الانتماء للجماعة وللوطن وللهوية بمفهومها الشامل
والموسع (الوطنية – القومية – الإنسانية – الحضارية...).
وبالنظر غلى الجانب الإيقاعي للنص
الشعري ومحاولة تعرف خصائصه الموسيقية والتعبيرية المختلفة، تستوقفنا مجموعة من
الانتهاكات الفنية للشاعر،وحرصه الملحوظ على تكسير البنية التقليدية للقصيدة
العربية العمودية،[حيث يكشف الشكل الطباعي للنص ونظلم توزيع اسطره الشعرية عن
خاصية "التدوير" التي تلحق نهايات عدد كبير منها، كما هو الحال في
المثال الثالي:
المدينة تغرق شيئا فشيئا
فاعلن فعلن فعلن فاعلن فا
تفر العصافير علن فاعلن فاعـــ
والماء يعبو لن فاعلن فا
ويقوم وزن هذه الأسطر وأجزاء النص
الشعري ككل على تكرار تفعيلة المتدارك (فاعلن) بتنويعاتها المختلفة (صحيحة-
مخبونة- مقطوعة)، كما أن خاصية "التدوير" سمحت للشاعر بتكسير الوقفة
العروضية التي ظلت من الثوابت الإيقاعية في القصيدة التقليدية.وهكذا يحقق الشاعر،
فضلا عن تكسير الوقفة الدلالية التي يتوقف فيها تماما المعنى في سطر معين عن السطر
الذي يليه،جريانا إيقاعيا وتواصلا دلاليا وتركيبيا بين مختلف أجزاء النص وأسطره الشعرية.أما
فيما يخص القافية والروي فقد تخلى الشاعر عن صرامتهما التقليدية ووجوب وحدة
حروفهما المعهودة في القصيدة التقليدية بوجه عام،بحيث حرص على أن يشكلا معا أنظمة
متداخلة ومتفاعلة تستجيب في ذلك لتبدل المواقف وتطور الصراع الدرامي واختلاف ردود
الأفعال المتناقضة في النص الشعري.
وعلى مستوى الإيقاع الداخلي
تستوقفنا ظاهرتا: التكرار والتوازي. كما هو الحال بالنسبة للأمثلة التالية: - تكرار
الحروف والأصوات (الجيم- التاء-الهاء-الراء...) التي تغلب عليها صفة
الجهارة.و-تكرار الألفاظ والكلمات ( شيئا فشيئا- رويدا رويدا- يطفو يطفو...).و-تكرار
الجمل والعبارات (جاء طوفان نوح /س: 1-18-25..).و- الخطاطة الصرفية-التركيبية (التوازي) لتحقيق التناسب الصوتي والتناغم الإيقاعي في
النص الشعري، كالآتي: { هاهم الحكماء يفرون نحو السفينه = هاهم الجبناء يفرون نحو
السفينه (س:18-26) / كان قلبي الذي نسجته الجروح = كان قلبي الذي لعنته الشروح (س:
48-49)}.
أما على مستوى التركيب اللغوي
والشعري في النص، فتجدر الإشارة إلى أن الجملة الفعلية تستجيب – على نحو لافت-
لهذه التحولات والتطورات العنيفة والسريعة التي تفرضها طبيعة المواقف وردود الفعل
المختلفة في النص الشعري نفسه،بحيث يصل كم هذه الجمل إلى ما يقرب من إحدى وثلاثين
(31) جملة من المجموع الكلي لجمل النص التي يصل عددها إلى حدود أربعين (40) جملة.وبمقدورنا
أن نلاحظ في المقطعين الأول والثاني غلبة الأفعال المضارعة (تغرق- تفر- يعلو-
يطفو- يلوحن- تجلو) مقارنة مع المقطع الثالث التي تهيمن عليه الأفعال الماضية، أو بالأحرى
التي هي في صيغة الزمن الماضي باستثناء الفعل "يرقد"، وهو ما يتفق مع
مستوى تطور حركة النص الشعري وتصاعدية حركته الدرامية، أو استشرافه نهاية الصراع
الخارجي انطلاقا من المقطع الثاني.
وفي هذا المستوى من التحليل، تجدر
الإشارة إلى كذلك إلى مجموع الجمل الإنشائية – على تعدد أساليبها وأشكالها
اللغوية- التي تنامى حضورها النصي انطلاقا من المقطع الثالث، كالآتي: الأمر (
انج من بلد)، ثم الدعاء (طوبى
لمن طعموا خبزه)، ثم التعجب الذي يفيد التهكم والسخرية والتشكيك (والصبايا
يلوحن فوق السطوح
/ قاضي القضاة ومملوكه). أما فيما يخص الضمائر، فقد انتقل الشاعر من ضمير
المتكلم المفرد (كنت) إلى ضمير الغائب المفرد (كان)، وهي لمحة فنية بارعة يتسنى
للشاعر من خلالها الكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط بين الطرفين ( الشاعر/ الذات
الفردية،، وشباب المدينة، والشعب/ الذات الجماعية)، ومستوى الوحدة وحميمية الصلة
التي تحدد نهجهما الصاعد والمقاوم لفداحة
الخطر القادم، وإدراكهما معا حق الإدراك ضرورة الممانعة ووجوب التضحية.
لا يمكننا في نهاية هذا التحليل إلا أن نقر بأن أمل دنقل قد استطاع في هذا النص" مقابلة خاصة مع ابن نوح"، وعلى نحو فني مبتكر ومثير، التمرد على سلطة الثوابت التقليدية للشعر العربي القديم، ومن ثمة تكسيره لبنيته الفنية والجمالية الجاهزة والمتكررة عبر مختلف الحقب والعصور، حيث عمد الشاعر، على مستوى الشكل الخارجي للنص، إلى الخروج عن نظام الشطرين المتناظرين، والتزام السطر الشعري المتفاوت من حيث الطول والقصر، مكسرا بذلك صرامة الوقفة العروضية، واستغلال مختلف أشكال البياض وعلامات الترقيم المتعددة، فضلا عن اعتماده موضوعات
0 الرد على "الموضوع: نص شعري-2- " مقابلة خاصة مع ابن نوح" الفئة المستهدفة: 2 باك آداب + 2 باك ع إنس "
إرسال تعليق