تــحــلــيـل نــص " لـــيـــل وصـــبـــاح..." – عبد الكريم بن ثابت
اقتضت
سنة التطور أن يأتي خطاب بعد خطاب ومدرسة بعد أخرى. فجاءت الرومانسية بعد
التقليدية بتجربة جديدة، كان الاحتكاك الفكري والإطلاع على الثقافات الغربية
والرغبة الملحة في الثورة على التقليدية من العوامل الرئيسية في ظهورها. تلك
التجربة التي أثارت جدلا كبيرا بين النقاد والمهتمين حول مكانتها ومدى مساهمتها في حركة الشعر
العربي الحديث، مثلها شعراء عرب كــ: جبران خليل جبران وأحمد زكي أبو شادي وعلى
محمود طه وغيرهم، ولعل الشاعر عبد الكريم بن ثابت واحد من أولئك الذين تمثلوا ذلك
في أشعارهم، وهو شاعر عرف بشغفه للطبيعة، وكان الشعر هوايته التي يصور بها مشاعره
وتأملاته في ومضات رومانسية في الموسيقى والتصوير، وهي رومانسية وضعت ذاته في
مواجهة الطبيعة والكون والحياة، في نزعة تشاؤمية مأساوية، وهو صاحب النص الذي بين
أيدينا. واعتمادا على العنوان، وهو عبارة عن جملة اسمية يحمل دلالة على تعاقب
الزمن وسيرورته، واعتمادا على مصدره " ديوان الحرية "، وبداية النص
ونهايته وشكله الهندسي، ومن خلال صاحبه أمكن الافتراض أن يكون النص قصيدة شعرية
تندرج ضمن خطاب سؤال الذات تتناول تجربة ذاتية تجسد معاناة الشاعر ورغبته في
التحرر من قيود الزمان التي تتعاقب فيه حركة الليل والصباح بشكل أزلي وما يتطلب
ذلك من حالات وجدانية وفكرية تفرضها قيود الحياة ومتطلباتها. فإلى أي حد استطاع
الشاعر تمثيل تيار سؤال الذات من خلال هذا النص؟ و إلى أي حد يمثل هذا النص التيار
الشعري الذي ينتمي إليه؟
تكشف
لنا القراءة الأولية للقصيدة عن أن الشاعر يوضح للقارئ الوضعية المأساوية
والمتأزمة التي يعاني منها في واقعه. إذ صور الشاعر في المقطع الأول عالما متكاملا
من الطبيعة والناس، فيهم الذين استكانوا إلى النوم، وفيهم من روعتهم الحياة. وفي
هذا العالم المتناقض يتساءل الشاعر: ( لماذا وكيف أقضي السنين؟). فهو يسهر مع
القمر ويعتبره صديقه، ويجعله ينام على الغصون. لينتقل بعد ذلك في المقطع الثاني
للحديث عن استمراره في البحث عن الحقيقة الضائعة، وينحو اتجاها وجوديا يبلور
إحساسه بالقلق على كل مقومات الإنسان، وفي الغاية من الحياة، وصمت العالم عن سؤاله
الأبدي.على أنه في المقطع الثالث خصه لتصوير جمال الليل، والكشف عن الحزن واللوعة
التي أحس بها وهو يتأمل هذا الجمال الليلي.على أنه ختم القصيدة بانبثاق زمن جديد
هو "الصباح" الذي يناقض الليل. فبانبثاقه عاديت الابتسامة إلى فناء
الشاعر فكانت ابتسامة الطفل، وكان حلم العذراء ورقصها وتيهها، وكان ثغر الورد وخد الأقاحي،
وكانت بعد ذلك الفكرة الفلسفية التي خرج بها الشاعر من دوامة القلق.لـقد
انتهت القصيدة بإشاعة أمل يتجاوز الصورة المأساوية التي رأيناها في المقاطع
الثلاثة السابقة، إلى صورة تحيل إلى إشاعة أمل، وتزيح طابع اليأس من الحياة. وكان
للنفس جواب شاف، حيث استمدت جوابها من الكفاح الذي أشرق بعد الظلام. وبذلك تنتهي
قصة الحيرة والقلق في (ليل وصباح) بجواب يرح الضمير وترتاح له النفس، نفس الشاعر
بعد تجوال في عالم القلق والاضطراب. لقد تفاعلت ذات الشاعر بأحاسيسها وهواجسها
وعناصر الطبيعة المختلفة للوصول إلى جواب عن الأسئلة التي أرقت ذات الشاعر. فالانتصار
في الحياة يتطلب الارتقاء فوق الأحاسيس القلقة واللحظات العدمية والنظر إلى الحياة
نظرة حية تحول المشاهد الكئيبة والمواقف المؤلمة إلى وضعيات يفعل فيها الإنسان
ويوجهها حسب إرادته، وينتصر على قلقه. فهل يجسد معجم النص من خلال تفاعلاته
العمودية والأفقية هذه المقصدية؟
وبانتقالنا
للمستوى المعجمي نسجل أن الشاعر ركز على معجمين اثنين لخدمة موضوعه،معجم الطبيعة
(القمر، الغصون، ظل الشجر،نجوم، بدر،الماء، الهضاب، خضر المروج، جرد البقاع،
السحاب، ماء الجداول، الصباح، الورود..)، ومعجم الذات والانفعالات ( سهرت، بت
أشاهد، كأني أشاهد، أتلفته، يشكو الأسى والضجر، الجنون، تلفت، فؤادي الحزين، فاضت
دموعي، من حولي، ....).إن المزاوجة بين هذين المعجمين لتحمل دلالة واضحة، ذلك أن
الشاعر قد استغل عناصر الطبيعة ليعبر عن ذاته في الوجود، مغلبا معجم الذات،
للدلالة على رفضه للواقع ،الأشبه بالموت بالنسبة له، وانتقاده لقيمه ومبادئه، ولإبراز
معاناته هو، وأن التغيير يقتضي أن يتحرك لفعل شيء ما.وتبقى العلاقة القائمة بين
معجم الذات ومعجم الطبيعة، في كونها علاقة ترابط وانسجام، إذ إن الطبيعة تحتضن
الذات والانفعالات أحيانا، ومصدرها أحيانا أخرى.
وإذا
انتقلنا إلى دراسة الصورة الشعرية التي حاول الشاعر من خلالها تصوير تجربته
الذاتية في هذا النص،وجدناها مغرقة في التخييل مقارنة مع الصور التي ألفناها في
الشعر التقليدي، وعند الشعراء الإحيائيين، ولا أدل على ذلك من أن النص قد اشتمل
على جملة من الاستعارات التي قامت على أساس ما يمكن أن نسميه "أنسنة
الأشياء" وخاصة عناصر الطبيعة. ومن أمثلة هذه الاستعارات نذكر: " شعاع
القمر ينام ويحلم فوق الغصون، خضر المروج
وجرد البقاع تبسمن للبدر، ..". فلقد وقعت الاستعارة على لفظ (شعاع القمر ينام
ويحلم) حيث أسند الشاعر فعلين يقتضيان وجود كائن حي يحلم ويستيقظ، وبذلك يكون
الشاعر قد عدل عن المعنى الحقيقي واقترب من المعنى المجازي على سبيل الاستعارة
المكنية.كما نسجل اعتماده على تشبيهات، إذ المشبه واحد والمشبه به متعدد، وكمثال
على ذلك: " الصباح كالطفل، كالعذراء، كثغر الورود، كخد الأقاح ". كما
اعتمد الشاعر على الرمز في صياغة صوره الشعرية، قصد الإيحاء بالمضمون العاطفي
والفكري الكامن خلف هذا الرمز، ومن أمثلة ذلك كلمة " الليل" التي ترمز،
من خلال سياق القصيدة، للحزن والحيرة والتأمل.وكلمة "الصباح" التي ترمز
للحرية والانعتاق من الحيرة والقلق الناجم عن ظلام الليل.
والحال أن
الإيقاع في الشعر الرومانسي يكشف عن ثورة على الواقع المأساوي، حيث نظم الشاعر قصيدته
على شكل الموشح الشعري الذي يتألف من الأقفال والدور والخرجة والغصن والأسباط. فكل
مقطع من مقاطع القصيدة وحدة موسيقية مبنية على التنويع والتوزيع في الأصوات
والتنغيم، والتلون الإيقاعي في أحرف الروي كما يبدو في أصوات ( النون، والعين،
والباء، والميم)، مما يضفي على فضاء القصيدة إيقاعا خفيفا يشبه إيقاع الموشحات،
بحيث يهمس بالمعاني الفنية التي ينطوي عليها كيان القصيدة ككل، والتفنن غي تقفية
الأبيات وتنويعها، للخروج من الدائرة الإيقاعية المغلقة التي تكبل النفس الشعري
التقليدي، وتقيد مشاعره. ولذلك فقد نظام القافية الموحد قيمته عند الشاعر ليعمد
إلى القوافي المتنوعة حيث يسمح المجال للنفس بالتعبير عن مكامنها بمختلف الأصوات
والإيقاعات.
وقد تعزز الجانب
الإيقاعي للقصيدة باستغلال الشاعر لأشكال متنوعة ومتعددة من التكرار والتوازي.
فعلى مستوى التكرار وظف الشاعر تكرار التطابق ( أشاهد – أشاهد، في البيت 3 – بعض-
بعض )، وتكرار التجانس (جناس الاشتقاق) نحو: نام / الأنام، الصبح / الصباح، يبسم/
تبسمن. وتكرار التضاد نحو: سهرت/ ينام، الركوع / السجود. وتكرار البداية مثل:
تكرار حرف الواو في بداية الأبيات (2-3-4-5-10-11-18-19)، وتكرار النهاية (تكرار
حرف النون والباء والعين والميم). أما فيما يخص التوازي فنلمسه من خلال تكرار نفس
الخطاطة الصرفية (سهرت وكان/ وبت أشاهد)، وتكرار نفس الخطاطة التركيبية ( سر
الحياة/ معنى الوجود، سر الخلود/ معنى الفناء..).فمن خلال هذه الفواصل ينبعث إيقاع
خاص يكشف عن مشاعر القلق والألم والأحزان والآمال.
وبانتقالنا إلى
دراسة المستوى التركيبي، نجد أن مجموعة من العناصر ساهمت في التعبير عن تجربة
الشاعر. ومن هذه العناصر نجد أن الشاعر قد راوح في نصه بين الجمل الاسمية التي تدل
على الثبات والاستقرار (كأني أشاهد بعض الظنون، نجوم وبدر ورقص الشعاع...)، والجمل
الفعلية التي تدل على الحركية (سهرت وكان شعاع القمر، بت أشاهد ظل الشجر، نام
الأنام، يظل إلى الصبح....). ويتمثل الثبات في النص : ثبات الشاعر على حالته
المأساوية في جميع الأزمنة وعجزه عن تغيير واقعه. أما الحركة فترتبط برغبة الشاعر
في التمرد على واقعه السلبي في محاولة لتغييره. حيث استعان الشاعر بأزمنة متعددة
كــ: الماضي (مضى، نام، بت، ظل..) والمضارع ( تلفت، يشكو، يصلي...) والمستقبل(
سيدلف، سيفنى).
أما فيما يخص
الأساليب، فقد راوح الشاعر بين الأسلوب الخبري (سهرت وكان، بت أشاهد...)لنقل تجربة
الشاعر، وهي تجربة مأساوية. والأسلوب الإنشائي ليخاطب الإحساس والمشاعر، فاستعمل
الاستفهام ( لماذا وكيف أقضي السنين)، والنداء (وناديت يا نفس، ونادى المنادي)،
والنهي( لا تسأموا). وهذه الأساليب الإنشائية- كما هو معلوم- تفيد الطلب. والطلب
علاقة بين طرفين هما: الشاعر وذاته. وهذا يدل على الحوار. والحوار يشير إلى قصة
الذاتية وإلى اللغة القريبة من اللغة اليومية. وهذا تأكيد لانتماء الشاعر إلى
الرومانسية عامة وجماعة "أبولو" خاصة.كما حققت تلك الأساليب الإنشائية
الوظيفة الأساسية وهي التعبير عن الذات. وبهذا فإن توظيف الشاعر للأسلوبين الخبري
والإنشائي يشير إلى خاصية أساسية من خصائص القصيدة الوجدانية وهي خاصية الوحدة
العضوية.
أما فيما يخص
نوعية الضمائر الموظفة، فنسجل حضور ضمير المتكلم المفرد (سهرت، بت، أشاهد، تلفت.)
والمخاطب الآخر ( نام الأنام، القوم، من بات يشكو، بعض يكد ليفنى الجموع، بعض
يصلي...) وضمير الغائب المفرد ( فباءت، فاضت،قالت).إن تعدد الضمائر يحيل على تعدد
الأطراف ومن ذلك على المصالحة الشعرية.ولقد ربطت ذات الشاعر علاقة تواصل مع عناصر
الطبيعة، وعلاقة صراع مع النفس، وعلاقة تعاطف مع فئة الساهرين ومن خلال ما سبق
أمكن القول أن الشاعر التزم بمقومات الاتجاه الرومانسي من خلال توظيف ضمير المخاطب
المفرد للتعبير عن التجربة الذاتية دائما.
من خلال دراستنا
لهذا النص، ملاحظة وفهما وتحليلا مرورا بالمستويات الدلالية والإيقاعية والبلاغية
والتركيبية، أمكن القول أن هذا النص قصيدة شعرية تستجيب لخصائص ومقومات خطاب سؤال
الذات، بل وأكثر من ذلك أنها جاءت ملخصة لتجربة شعرية يملؤها الحزن والكآبة والضجر
والقنوط إلى الكفاح والخلود والحب والأمل الصادق. فقد حاول الشاعر فهم غوامض النفس
تجاه وجوده في هذه الحياة ومساره فيها، فعبر بلغة قلقة متحفزة تنشر في ثناياها
علامة الاستفهام (لماذا وكيف أقضي السنين؟). وتعكس من جهة ثانية حالة الإشراق التي
آل إليها الشاعر في نهاية المطاف.
ونختم تحليلنا
لهذا النص بطرح بعض الإشكاليات النقدية التي انتهينا إليها بعد قراءتنا التحليلية
لنموذج شعري من نماذج سؤال الذات، ومنها: إلى أي حد يمكن اعتبار تيار سؤال الذات
وصفة ناجعة للخروج من أوحال التقليد والمحاكاة إلى آفاق التعبير والإبداع؟ وهل
يعتبر التعبير عن الذات الفردية ونظم القصائد التي تدور في فلك الأنا الفردية هي
فعلا قمة التعبير؟ وإلى أي حد نجح التيار الذاتي – بتركيزه على الذات والوجدان- في
إعداد وصفات جاهزة لإخراج الأمة من واقع التردي والانحطاط الذي تغرق فيه؟ ألا يمكن
اعتبار تيار سؤال الذات نفسه وجها من وجوه الأزمة التي تعيشها الأمة العربية؟ وهل
نجح في جانبه الشكلي والبنيوي في الثورة والقضاء على تيار إحياء النموذج؟ ألا يوجد
تيار أفضل من هذا الاتجاه الشعري يستطيع أن يحقق للشاعر حريته وفي الوقت نفسه يضع
قضايا الأمة في صلب اهتمامه وفي ميزان الإصلاح والمعالجة؟
تبا للحياة
ردحذفتعليق لي فوق معاك جيل 2024 أمدرى واش ديتي الباك
ردحذف