-->

الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع



لم يكنِ الشاعر العربي الحديث بمعزل عن المؤثرات العامة المحيطة به، بدءاً بواقع الهزيمة الأسود مع نكبة فلسطين عام 1948 ، مرورا بالمد القومي الوليد، وصولا إلى انهيار الواقع العربي و ما أحدثه من زرع الشكوك في نفوس المثقفين والمبدعين، و إسقاط كل الوثوقيات العربية التقليدية و الثوابت المقدسة والطابوهات. لقد مكنت كل هذه الاهتزازات الشاعر العربي الحديث من خلخلة الثوابت، و الانفتاح على ثقافات العالم، شرقه و غربه، وكذا على التراث العربي، فكان :

استيعاب الروافد الفكرية القادمة من الشرق ) مذاهب صوفية، تعاليم متحدرة من الديانات الهندية والفارسية والصابئة ...

الاستفادة من الفلسفات الغربية الحديثة ، من وجودية و اشتراكية ...

التفاعل مع أشعار: بابلو نيرودا، و بول ايليوار، و لويس أراكون، و كارسيا لوركا، وماياكوفسكي، وناظم حكمت، وتوماس إليوت ....

التأثر بأشعار جلال الدين الرومي، و عمر الخيام، و فريد العطار، و طاغور ....

الانفتاح على الثقافات الشعبية ) سيرة عنترة بن شداد، سيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة أبي زيد الهلالي، كتاب ألف ليلة و ليلة . .)..

التعمق في القرآن الكريم، و في الحديث النبوي الشريف .

التمعن في الشعر العربي القديم .

بكل ذلك غدا الشعر العربي الحديث وسيلة لاستكشاف الإنسان و العالم تعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة التي استقرت عند بعض الشعراء المحدثين الكبار، من أمثال بدر شاكر السياب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي و صلاح عبد الصبور و خليل حاوي و علي أحمد سعيد )أدونيس( وغيرهم .

ومن الموضوعات التي تسجل حضورها بكثرة في الشعر العربي الحديث، تجربة الغربة و الضياع التي يرجع الدارسون عوامل بروزها إلى ثلاثة هي :

أ: التأثر بشعر توماس إليوت، خاصة في قصيدته " الأرض الخراب ".

ب: التأثر بأعمال بعض المسرحيين والروائيين الوجوديين أمثال: ألبير كامو، و جون بول سارتر، وبعض النقاد مثل: كولن ولسون، خاصة في دراسته عن اللامنتمي، وهي أعمال ترجمت إلى اللغة العربية وساعدت في تبني الشباب موجة من القلق والضجر انعكست في أشعارهم

ج: عامل المعرفة، باعتبار المعرفة سلاح الشاعر الحديث .

إلا أن أحمد المجاطي لا يقر بكون هذه المصادر هي الوحيدة التي شكلت سبب نغمة الكآبة و الضياع والتمزق، بل هو يرى أن هناك جذورا لهذه النغمة تتمثل في تربة الواقع العربي الذي حولته النكبة إلى خرائب و أطلال، ذلك أن النكبة في نظره أهم عامل في الدفع نحو آفاق الضياع و الغربة بالشعر العربي الحديث، فليس الأمر مجرد نغمة سوداء استقدمها الشعراء بقدر ما هو مأساة حقيقية مصدرها هذا الواقع المنحل و ذلك التاريخ الملوث اللذان قدر على الشاعر العربي الحديث أن يحمل لعنتهما، مما يؤكد أصالة هذه التجربة و ضرورة البحث عن جذورها في الواقع، و تصوير أهم مظاهرها البارزة في القصيدة العربية الحديثة، والتي نذكر منها:

الغربة في الكون: حين حلت النكبة، و طرد العربي الفلسطيني من أرضه، و نفي من أمجاده و تاريخه، وحاصرته المهانة و الذل، و انفصل عما حوله من أشياءَ و قيمٍ، مال إلى الشك في كل شيءٍ، وكان الشاعر بفعل حساسيته المفرطةِ، أبلغ من جسد هذا الميل حين جرب أن يحس بوحدته و تفرده في الكون، وتولى أمر نفسه بنفسه، فشكك في الحقائق ومال إلى التفلسف الوجودي  )الأنطولوجي (، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، بفعل إحساسه بالعبث و القلق و المرارة المظلمة، وممن جسد هذا الميل نذكر: صلاح عبد الصبور، والسياب، وأدونيس، ويوسف الخال .

الغربة في المدينة: آمن الشاعر العربي الحديث بأن هدف الشعر هو تفسير العالم و تغييره، لذا وجد في المدينة المجال الأنسب لتحقيق هدفه، على اعتبار أنها تمثل الوجه الحضاري للأمة بكل أبعاده الذاتية والموضوعية، وتتخذ قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا .

لكن المدينة العربية فقدت كثيرا من مظاهر أصالتها، حين غزتها المدينة الأوربية، فأضحت بمصانعها الحديثة وعماراتها الشاهقة و طرقاتها الفسيحة، قالبا لا يناسب واقع الأمة العربية المهزومة مما غذى إحساس الشاعر العربي الحديث بالغربة في علاقته بالمدينة مكانا و ناسا وقيما و أشياءَ، فكان أن سلك في تصوير هذه المدينة طرقا متعددة، فقد صورها في ثوبها المادي و حقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني، كما فعل أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه )مدينة بلا قلب(. كما اهتم الشاعر العربي الحديث بالناس في المدينة، فقدمهم صامتين يثقلهم الإحساس بالزمن، مشغولين بأنفسهم، لا يكاد يلتفت الواحد منهم إلى الآخر.

ورغم هذه المواقف السلبية من المدينة فإن الشاعر الحديث لم يستطع الهروب منها إلى الريف أو الغاب، كما فعل الرومانسيون، فقد وجد أن المدينة تحاصره، كما عند السياب مع بغداد، إذ وجد أن الخلاص منها يكمن في الموت، كما عند صلاح عبد الصبور في قصيدة  )الخروج(.

الغربة في الحب: فَشَلٌ ثالث يضاف إلى فشل الشاعر العربي الحديث في فهم أسرار الكون و في التأقلم مع المدينة، إنه فشله في الحب الذي بات زيفا مصطنعا و بريقا واهما، ذلك أن هموم الشاعر العربي الحديث كثيرة متنوعة، و تركيبته النفسية معقدة لا ينفع معها ترياق الحب بمفهومه الروحي أو المادي، فلم تعد المرأة بجسدها و أنوثتها و رقتها و جمالها قادرة على تخليصه من همه القاتل، بل إن العلاقة بين الزوجين تحولت إلى عداوة و قتال كما عند خليل حاوي في قصيدته )الجروح السود(  من ديوانه )نهر الرماد(، والحب يموت كما عند عبد المعطي حجازي، أو يصاب بالاختناق كما عند صلاح عبد الصبور .

الغربة في الكلمة: كانت رغبة الشاعر العربي الحديث أن تكون كلمته قوة و حركة وفعلا، غير أن الزمن لم يلبث أن حول الكلمة على لسانه إلى حجر كما قال أدونيس في قصيدة )السماء الثامنة( من ديوان )المسرح و المرايا(، فعاشت الكلمة بذلك غربتها الذاتية في واقع لا يربي سوى الصدى و خنق الجهر، وقتل الكلام الصارخ، مما جعل الشاعر يلوذ بالصمت، كما فعل البياتي في قصيدة  )إلى أسماء(  من ديوان(سفر الفقر و الثورة( رغم كونه عذاب و سكون و حزن، حين اكتشف أن نضاله بالكلمة لن يتجاوز تصوير الواقع البشع الذي خلقته الهزيمة و حكمت عليه بمعاناته والاكتواء بناره، دون أن تمتلك الكلمة ميزة الحركة والفعل .

خلاصة الفصل: هكذا شكلت هذه التنويعات الأربعة الأبعاد المختلفة لتجربة الغربة لدى الشاعر العربي الحديث والتي تبلورت في مفهوم دال واحد هو: الغربة في الواقع الحضاري، سواء تمظهرت من خلال جانب واحد أو أكثر، فقد كان هدفه الأساس هو البحث عن الخلاص الكلي إيمانا منه أن وراء كل ظلمة نوراً، وأن الموت نفسه وسيلة إلى الحياة حين لا تبقى أية وسيلة أخرى، فكان هناك ارتباط وثيق بين معاني الضياع و الغربة ومعاني اليقظة والتجدد والبعث، وحصل تداخل بين المعاني جميعها في قصائد الشعراء المحدثين 

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع "

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات