تــحــلــيـل نــص " غرفة الشاعر" – علي محمود طه (الثانية باكالوريا أدب وع إ)
تــحــلــيـل نــص " غرفة الشاعر" – علي محمود طه
جاءت
المدرسة الرومانسية استجابة لواقع يتطلب التعبير عن الوجدان والمشاعر والأحاسيس
الصادقة أكثر من الصناعة اللغوية والزخرفة، فدعت إلى نبذ التقليد ورفض المحاكاة
والارتباط بالقديم، كما دعت إلى التحرر من القيود التي كانت تفرضها المدرسة
التقليدية. ودعت إلى الإبداع، فجعلت من القلب مصدر الإبداع وجعلت من الوجدان غاية
التعبير متأثرة في ذلك بالرومانسية الغربية. وشكلت كل من الديوان والرابطة القلمية
وأبولو مدارس مختلفة مثلت التيار الذاتي في الوطن العربي. ومن خصائصها محاولة
الثورة على الشكل القديم بالنظم على أشكال مختلفة كالموشحات وقصيدة النثر. وكذا
التنويع في الأسس الموسيقية للقصيدة بتنويع الأوزان والقوافي وحروف الروي واستبدال
اللغة القديمة بلغة مألوفة وسهلة ومتداولة بل ويومية في بعض الأحيان. ويعتبر علي
محمود طه أحد الأقطاب المهمة في الرومانسية العربية، فقد كان ينتمي إلى مدرسة أبولو
التي شيدها أحمد زكي أبو شادي. وقد تأثر بالشاعر الإنجليزي كولريدج، حيث أطلق على
نفسه اسم "الملاح التائه" تأثرا بهذا الشاعر الذي أطلق على نفسه
اسم"الملاح القديم". واعتمادا على الشكل الهندسي للنص الذي يقوم أساسا
على تعدد حرف الروي ونظام المقاطع ونظام الشطرين وكثرة التدوير ومصدر النص،
وعنوانه، وهو عبارة عن مركب إضافي مكون من كلمتين: "غرفة" وتدل على مكان
يحيل على الطبيعة/ الحياة. و"الشاعر" تدل على إنسان يحيل على
"الذات"، ومن خلال صاحبه نفترض أن يكون النص قصيدة شعرية وجدانية تنتمي
إلى خطاب سؤال الذات، وجاءت في غرض إبراز المعاناة واليأس والكآبة من الواقع.فإلى
أي حد استطاع الشاعر تمثيل تيار سؤال الذات من خلال هذا النص؟ وإلى أي حد تمثل هذه
القصيدة لجملة خصائص ومقومات سؤال الذات؟
تكشف
لنا القراءة الأولية للقصيدة عن أن الشاعر يعبر عن تجربته الشعرية، وهي تجربة
ذاتية تجسد معاناة الشاعر في الواقع وتبرز علاقته بالذات والحياة والطبيعة. وقد
تجسدت هذه الفكرة العامة في أفكار أساسية اختزلتها مقاطع القصيدة الأربعة.إذ صور
الشاعر في المقطع الأول حالة الكآبة التي تطغى عليه، وللأرق والسهاد وجفاء النوم
الذي أصاب عينيه بفعل التفكير في الواقع وعملية الكتابة. لينتقل بعد ذلك في المقطع
الثاني للحديث عن طغيان الصمت على غرفته ونفسيته، ومآزة السراج له عبر اختراق
الصمت بأشعة الضوء.على أنه في المقطع الثالث اتهم نفسه والليل معا، وحملهما
مسؤولية الأوضاع التي آل إليها والمفعمة بالحزن والأسى والأرق. ليعلن في المقطع
الأخير عن ثورته وانتفاضته على الوضع القائم، بدعوة نفسه إلى رفض الحياة ورفض
الواقع والتماس السكون والراحة في الفراش، وختم النص بنظرة تشاؤمية حول الدنيا.
يتضح
إذن أن المضمون يرتبط بالشاعر، أي بالتعبير عن التجربة الذاتية، وكذلك تجسيد
وظيفة" التعبير عن الذات" التي تقوم عليها المدرسة الرومانسية. وعليه،
فالمضمون أبان لنا عن انتماء النص إلى "سؤال الذات".
بانتقالنا
للمستوى المعجمي نسجل أنه جاء معبرا عن التيار الذاتي الرومانسي، من حيث احتواؤه
على ألفاظ وعبارات دالة على الطبيعة والواقع، وألفاظ وعبارات دالة على ذات الشاعر.
ويمكن توضيح ذلك من خلال الجدول التالي:
الحقل الدال على الطبيعة والواقع |
الحقل الدال على الذات |
الليل،الدجى،الرعد،البرق،الأبراق،الضوء،السراج،الحياة، النيران، النهار،
غرفة، الموقد، الفراش، المجنون، نهار الأسى، ليلا الخطوب،الداجي،الختل... |
الشاعر الكئيب،
غارقا، الحزن، الأسى،الدموع، أذبلت، الصمت،
الأنين، تبكي، الشجون، رأسك الحزين، السهد، ذابلات جفونك، ارتعاش، جبينك،الأعماق،قلبك
الغضون،.... |
نستنتج
من خلال دراستنا للمعجم أن العلاقة التي تربط بين الحقلين علاقة مسببية، حيث تسبب
الواقع والطبيعة والحياة في الحزن والكآبة والألم مما يدل على وجود تنافر بين
الشاعر وبين الواقع بمكوناته.كما نستنتج أن النص تصوير للنفسية الحزينة بفعل تدخل
عناصر الطبيعة. وحضور ألفاظ دالة على الذات وألفاظ دالة على الطبيعة والواقع
والحياة يدل على أن المعجم الشعري الموظف في النص، معجم رومانسي يؤكد انتماء النص
إلى سؤال الذات على مستوى المعجم.
وإذا
انتقلنا إلى دراسة الصورة الشعرية التي حاول الشاعر من خلالها تصوير تجربته
الذاتية في هذا النص، وجدناها مغرقة في التخييل مقارنة مع الصور التي ألفناها في
الشعر التقليدي، وعند الشعراء الإحيائيين، ولا أدل على ذلك من أن النص قد اشتمل
على جملة من الاستعارات التي قامت على أساس ما يمكن أن نسميه "أنسنة الأشياء"
وخاصة عناصر الطبيعة. ومن أمثلة هذه الاستعارات نذكر: "وما زلت غارقا في
شجونك- تمشى خلال غرفتك الصمت- دب السكون- السراج الشاحب يحاول تخفيف وطأة الصمت
على الشاعر والإشفاق عليه- حيث النيران تبكي حسرة على الشاعر وعلى حياته الكئيبة"
فقد وقعت الاستعارة على لفظة (الشجون) مسندا إليه صفة الإغراق على سبيل الاستعارة
المكنية التي حذف منها لفظ المستعار من ( البحر) وأشير إليه ببعض صفات (الإغراق).فلم
يكتف الشاعر بوصف صفة الحزن والكآبة، بل صور لنا نفسه غارقا في قعر الأحزان والمآسي.
ونحن نعلم سلفا أن الأسى والحزن صفة تتعلق بالشعراء الرومانسيين، وهذا يمكننا من
إثبات هوية النص بكونه ينتمي إلى خطاب سؤال الذات.
أما
على مستوى الإيقاع الخارجي للنص فنجده مبنيا على وزن بحر الخفيف: (فاعلاتن مستفع
لن فاعلاتن)، ويمكن توضيح ذلك من خلال تقطيع البيت الأول من القصيدة على الشكل
التالي:
أيــهــا الــشــاعــر
الـكـئيب مـــضـــى اللــيــــ
ـــــل ومـــا زلـــت غــارقـــا فــي شــجــونـــك
/0 / / 0 / 0 / / 0 / / 0 / / / 0 / 0 / / / 0 / 0
/ / 0 / / 0 / 0 / / 0
/ 0
فا عـــلا تــن / مـتـفــع لن / فـعـلا تـن فــعــــلا تن / مـتـفـــع لن / فــاعـــــلاتــــن
وقد
استعمل الشاعر مختلف الحالات الممكنة في بحر الخفيف، حيث وجدناه يستعمل
"فاعلاتن" و"مستفع لن" تارة صحيحتين، وتارة مخبونتين (فعلاتن،
متفع لن). أما القافية فقد جاءت مقيدة متواترة في المقطع الأول والمقطع الثالث، وتارة
مطلقة متواترة في المقطع الثاني والرابع..بينما جاء الروي متنوعا ( الكاف- القاف-
الباء). فمن خلال دراستنا للإيقاع الخارجي أمكننا الجزم بأن النص ينتمي إلى خطاب
سؤال الذات، خصوصا أن الشاعر اعتمد فيه على الإكثار من تقنية التدوير، والاعتماد
على نظام المقاطع والبحر الخفبف الذي يمكن اعتباره ملجأ نفسيا توسل به الشاعر
للخروج من همه وغمه.
وقد
تعزز الجانب الإيقاعي للقصيدة باستغلال الشاعر لأشكال متنوعة ومتعددة من التكرار
والتوازي. فعلى مستوى التكرار وظف الشاعر تكرار النهاية والمتمثل في تكرار حرف
الروي (الكاف- القاف- الباء) والتي تراوحت بين المطلق والمقيد تناسبا مع الحالات
النفسية للشاعر والمتقلبة بين الحزن والكآبة تارة والأمل في الانفراج تارة أخرى.
كما نجد القصيدة تزخر بتكرار حرف السين المناسب واللين والمهموس والذي يتناسب،
وجوده، دلاليا مع نفسية الشاعر مرهفة الأحاسيس. كما نجد بالإضافة إلى ذلك تكرار
الكلمات ( الليل- الحياة- الأسى- الحزين- السكون ...)، والتي تصور النفسية
المنكسرة والكئيبة للشاعر. أما التوازي فنلمسه من خلال تكرار بعض الصيغ الصرفية
مثل: الأفعال- أفعال- فاعل- فعول- فعيل- ....، وهي صيغ صرفية متكررة ترصد آهات
مريرة نتيجة التوجع من الحزن والأسى الذي ألم بالشاعر.
إن
كل المعاني التي توصل إليها درس المستوى الموسيقي يجعلنا نقول إن هذا النص رومانسي
النزعة والمنشأ، خصوصا أن الشاعر واحد من رواد خطاب سؤال الذات في الشعر العربي.
وبانتقالنا
إلى دراسة المستوى التركيبي، نجد أن مجموعة من العناصر ساهمت في التعبير عن تجربة
الشاعر. ومن هذه العناصر نجد أن الشاعر قد زاوج في نصه بين الجمل الاسمية التي تدل
على الثبات والاستقرار (مسلما رأسك الحزين- إنها للمجون- ويد تمسح...)، والجمل
الفعلية التي تدل على الحركية (مضى الليل- تمر فوق جبينك- تبكي الحياة..). ويتمثل
الثبات في النص : ثبات الشاعر على حالته المأساوية في جميع الأزمنة وعجزه عن تغيير
واقعه. أما الحركة فترتبط برغبة الشاعر في التمرد على واقعه السلبي في محاولة
لتغييره. حيث استعان الشاعر بأزمنة متعددة كــ: الماضي (مضى) والمضارع ( تمسح-
تبكي- تمر- يهفو ...) والأمر (قم) للتعبير عن الحالات المتنوعة في حياته بين الماضي
المنقطع( مضى الليل) والماضي المستر إلى الحاضر ( ما زلت) والحاضر (تمسح)
والمستقبل.
أما
فيما يخص الأساليب، فقد راوح الشاعر بين الأسلوب الخبري ( لقد تمشى خلال غرفتك
الصمت- إنما للمجون- لقد نصل الليل) ليخاطب العقل والفكر، ولإبراز قوة الطرف الآخر
مقابل ضعف الشاعر. وفي هذا التزام بمقومات المدرسة الرومانسية. والأسلوب الإنشائي
ليخاطب الأحاسيس والمشاعر، فاستعمل النداء ( يا شاعري)، والأمر ( فقم الآن من
مكانك)، والاستفهام ( ما وراء السهاد في ليلك الداجي). وهذه الأساليب الإنشائية-
كما هو معلوم- تفيد الطلب. والطلب علاقة بين طرفين هما: الشاعر وذاته. وهذا يدل
على الحوار. والحوار يشير إلى قصة الذاتية وإلى اللغة القريبة من اللغة اليومية.
وهذا تأكيد لانتماء الشاعر إلى الرومانسية عامة وجماعة "أبولو" خاصة.كما
حققت تلك الأساليب الإنشائية الوظيفة الأساسية وهي التعبير عن الذات. وبهذا فإن
توظيف الشاعر للأسلوبين الخبري والإنشائي يشير إلى خاصية أساسية من خصائص القصيدة
الوجدانية وهي خاصية الوحدة العضوية.
أما
فيما يخص نوعية الضمائر الموظفة، فنسجل حضور ضمير المتكلم المفرد (شاعري) والمخاطب
المفرد ( أنت – رأسك- حطمت- أنفاسك) وضمير الغائب المفرد ( يطغى- ضوئه).إن تعدد
الضمائر يحيل على تعدد الأطراف ومن ذلك على المصالحة الشعرية. ومن خلال ما سبق أمكن القول أن الشاعر التزم
بمقومات الاتجاه الرومانسي من خلال توظيف ضمير المخاطب المفرد للتعبير عن التجربة
الذاتية دائما.
من
خلال دراستنا لهذا النص، ملاحظة وفهما وتحليلا مرورا بالمستويات الدلالية
والإيقاعية والبلاغية والتركيبية، أمكن القول أن هذا النص قصيدة شعرية تستجيب
لخصائص ومقومات خطاب سؤال الذات، بل وأكثر من ذلك أنها جاءت ملخصة لتجربة شعرية
يملؤها الحزن والكآبة والهروب من الواقع واللجوء إلى العزلة والانطواء على الذات،
وخلق علاقة عداوة مع الواقع الإنساني الذي
يعد وكونه " ختلا وزيفا ومجونا" على حد قول الشاعر. وعلى العموم يمكن
اعتبار هذه القصيدة من النماذج المعبرة بعمق عن مضامين التيار الذاتي الرومانسي،
وعن خصائصه الفنية التي عكستها الحقول الدلالية، والصور البيانية، والإيقاعات
الموسيقية، مما يؤكد ريادة جماعة " أبولو "، التي ينتمي إليها الشاعر،
في ترسيخ الاتجاه الرومانسي في الشعر
العربي الحديث.
0 الرد على "تــحــلــيـل نــص " غرفة الشاعر" – علي محمود طه (الثانية باكالوريا أدب وع إ)"
إرسال تعليق