قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي (السنة الثانية باكالوريا أدب)
تــحـلـيـل نــص " نــهـــج الــبــردة " لأحمد شوقي
يمثل
عصر النهضة نقطة تحول في القصيدة العربية من طور الصنعة والبديع إلى طور البعث
والإحياء، حيث اشتدت الرغبة في العودة إلى الأصول القديمة باعتبارها نماذج تحتذي،
ومنطلقا أساسيا للانعتاق من قيود الركود والجمود. وإذا كان البارودي هو باعث الشعر
العربي الحديث ورائد الشعراء الكلاسيكيين، فإن جماعة من الشعراء والنقاد يعتبرون
تلميذه أحمد شوقي أمير الشعراء بلا مدافع ولا منازع، ويعتبرون أن هذه الإمارة أتته
بفعل مجموعة من الخصائص الشعرية التي ميزت شعره والتي سنحاول إظهار قيمتها وسهمتها
في تنشيط حركة البعث والإحياء وتطوير حركة الشعر العربي الحديث منذ بدايتها
الأولى. ولكي نتمكن من تحقيق هذا الهدف، سنسلط الضوء على هذا النص الشعري الذي
يحمل عنوان " نهج البردة ". وعلى ضوء عنوان النص، وهو عبارة عن جملة
اسمية يحمل دلالة على أن الشاعر يستحضر نموذجا شعريا قديما وه وقصيدة
"البردة" للشاعر العباسي شرف الدين محمد البوصيري، ومن خلال الشكل
الهندسي للنص والبيت الثاني عشر، ومن خلال صاحبه نفترض أن يكون النص قصيدة شعرية
عمودية تندرج ضمن شعر إحياء النموذج سيعارض فيه الشاعر قصيدة البردة للبوصيري في
مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث الوزن والقافية والموضوع. فإلى أي حد استطاع الشاعر تمثيل تيار إحياء النموذج من خلال هذا
النص؟ و إلى أي حد يمثل هذا النص التيار الشعري الذي ينتمي إليه ؟
تكشف
لنا القراءة الأولية للقصيدة عن أن أمير الشعراء أحمد شوقي استهل قصيدته بمقدمة
غزلية وصف فيها حالته الوجدانية في معاناته مع محبوبته. ثم انتقل بعد ذلك إلى
موضوع آخر نحا فيه منحا حكيما، حيث تحدث عن النفس وغوايتها في دنيا خادعة. وبعد
ذلك دخل إلى الغرض الأساسي وهو مدح خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، واختتم
قصيدته بالتوجه إلى الله تعالى بالدعاء من أجل الأمة الإسلامية. وللتأكد من فهمنا
للقصيدة نقسمها إلى وحداتها الأساسية، مع اقتراح عنوان مناسب لكل وحدة.
·
الوحدة الأولى ( 1 – 4 ): معاناة الشاعر مع محبوبته.
·
الوحدة الثانية ( 5 – 11 ): غواية النفس في دنيا خادعة.
·
الوحدة الثالثة ( 12 – 22 ): مدح الرسول صلى الله عليه
وسلم وآله وصحبه.
·
الوحدة الرابعة (23 – 25 ): الدعاء من أجل الأمة
الإسلامية.
جاءت القصيدة الشعرية في سياق المعارضة، ومضمون
هذه المعارضة هو الإبانة عن قدرة الشاعر وموهبته الشعرية في معارضة بردة البوصيري
في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يكون الشاعر قد التزم بقيود الاتجاه الإحيائي
على مستوى المضمون.
بانتقالنا
للمستوى المعجمي نسجل أن الشاعر قد ركز على معجم شعري قديم تتوزع ألفاظه للدلالة
على ثلاثة حقول دلالية هي:
·
حقل دال على عواطف الشاعر(الغزل): ريم على القاع، يا
ساكن القاع، أحل سفك دمين كتمت السهم في كبدي ...
·
حقل دال على النفس والدنيا (الحكمة): يفنى الزمان، نفس،
دنياك، مبكية، إساءتها، جرح، يبكي، الأماني، الأحلام، مسودة الصحف، مبيضة اللمم،
هامت، اللذات...
·
حقل دال على المدح: محمد صفوة الباري، سناؤه سناه الشمس،
جئتنا بحكيم، البدر دونك في حسن، الليث دونك، البحر،شرف، رحمته، بغية الله، الليث،
النخب....
والواضح
أن ألفاظ هذه الحقول، حتى وإن اختلفت في الأغراض، التقت فيما بينها باعتبارها
مستقاة من المعجم الشعري القديم. فلكي يعبر عن وجدانه استدعى المعجم الخاص بالغزل
العذري. كما أنه حين أراد التعبير عن النفس وغوايتها التمس المعجم الخاص بشعر
الحكمة. وللتعبير عن الصفات التي يتسم بها الممدوح استدعى المعجم الخاص بالمدح.
والعلاقة القائمة بين هذه الحقول تكامل وانسجام. لأن الغزل جزء من ملذات الحياة
وغواية النفس، ومدح الرسول ولآله وصحبه، واستحضار خصالهم الحميدة، هو بداية التوبة
وإصلاح النفس وتقويتها. وبذلك يكون شوقي التزم بعمود الشعر العربي الذي هو جزالة
اللفظ واستقامته.
وبمساءلتنا
للصورة الشعرية نسجل أن الشاعر استحضر تقنيات البلاغة القديمة للتعبير عن موقفه.
وتأتي في مقدمتها الاستعارة في البيت الأول والثاني " ريم على القاع،
عيني جؤذر، ساكن الأجم " حيث شبه جمال المحبوبة بجمال الظبي الواقف بين أشجار
الغابة الخضراء، كما شبه جمال الظبي بالسيف القاطع الذي قتله بالرغم من حرمة القتل
في الأشهر الحرم. كما شبه نفسه بالأسد لاشتراكهما في القوة والشجاعة.
"فالريم" يقصد بها المرأة الجميلة (محبوبة الشاعر)، و"الجؤذر"
يقصد به محبوبته الجميلة، و"ساكن الأجم" يقصد به نفسه.والكناية
"بيض الوجوه" كناية على أنهم قوم يتفاءل بهم ويسعد المرء
بلقائهم.و"شم الأنوف" كناية على أنهم قوم ذوو رفعة وعلو وشرف.و"مسودة
الصحف" كناية على كثرة الذنوب.و"مبيضة اللمم" كناية على الشيب
والهرم والتشبيه في البيت (13 -16) حيث شبه نور الرسول صلى الله عليه وسلم
بضوء الشمس، وشبهه بالبدر بجامع الإشراق والرفعة، وبالبحر بجامع العطاء والكرم.والمجاز
المرسل، فمثاله لفظتا "الأجم" ويقصد بها الشاعر "العرين"،
وهذا مجاز مرسل علاقته الكلية ، لأن الأجم
كل والعرين جزء منه. و"النفس" ويقصد به الشاعر
"الإنسان" وهذا مجاز مرسل علاقته الجزئية،لأن النفس جزء من الإنسان.
وقد
ساهمت هذه الصور الفنية في إضفاء جمالية على النص، كما أخرجته من الطابع التقريري
المباشر إلى الطابع الإيحائي غير المباشر وبذلك حققت للنص شعريته.وما يلاحظ على
تلك الصور هو أنها صور شعرية قديمة تتميز بكونها محسوسة. وبهذا يكون الشاعر قد قام
بإحياء النموذج القديم على المستوى التصويري الفني.
وبانتقالنا
للحديث عن البنية الإيقاعية في شقها الخارجي، يتبين لنا جليا – بعد التقطيع
العروضي للبيت الأول- أن القصيدة جاءت على إيقاع البحر البسيط (مستفعلن فاعلن
مستفعلن فاعلن) وهو بحر كلاسيكي قديم أخذ به الشاعر ليؤكد انتماءه إلى الخطاب
الإحيائي.أما الروي فقد جاء موحدا ( حرف الميم) موصولا بحرف مد (الياء).بينما
القافية جاءت مطلقة متراكبة موصولة، الأمر الذي يفيد التزام الشاعر بوحدة القافية
ووحدة الروي ووحدة الوزن، وهو ما يبين التزامه بخصائص المدرسة التقليدية.
هذا
على مستوى الإيقاع الخارجي، أما فيما يخص الداخلي فقد عمد شاعرنا إلى تحقيقه عبر
مجموعة من الظواهر الصوتية وعلى رأسها التكرار، إذ نسجل حضور تكرار التطابق( النفس
– النفس في البيت 3 – 9 – 10) وجناس الاشتقاق (أحل/ الحرم، يدعها / داعي، سناؤه /
سناه)، وتكرار البداية (يا رب في بداية البت 19 و 23)، والطباق ( مبيضة / مسودة،
يبقى/ يفنى، نائم / لم ينم ).والتكرار مع التبديل( ساكن القاع/ ساكن
الأجم)،والتكرار الحر( صل، النفس).يتضح لنا من خلال دراسة البنية الإيقاعية أن
شوقي قد التزم بالخصائص الشكلية لمدرسة إحياء النموذج .
وعلى
مستوى الأساليب، فقد راوح الشاعر بين الأساليب الخبرية " ريم على القاع، رمى
القضاء، صلاح أمرك، البدر دونك..." من أجل إخبار المتلقي بحالته الوجدانية
والصفات الخلقية والخلقية التي يتمتع بها الممدوح الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأساليب الإنشائية (النداء – الأمر – النهي ) جاء بها الشاعر من أجل تجاوز
الطابع التقريري للقصيدة وتحقيق شعرية اللغة.
أما
فيما يخص الجمل، فقد مزج شوقي بين الجمل الاسمية (ريم على القاع، البدر دونك،
الجرم في فلك، الليث دونك، محمد صفوة الباري..) للدلالة على ثبات الصفات التي
يمتاز بها الممدوح. و الجمل الفعلية (رمى القضاء – يفنى الزمان – جحدتها وكتمت
السهم – هامت على أثر اللذات ...) للإشارة إلى الحركة والتحول الاضطراب الذي يعاني
منه بسبب تأثره بجمال محبوبته الذي خلف لديه إحساسا بالألم.
فيما يخص الضمائر فالشاعر راوح بين ضمير المتكلم (دمي،
حدثتني، جحدتها، كبدي، ...)، الذي يحيل إليه. وهناك ضمير الغائب المفرد ( سناؤه،
سناه، رحمته ...) إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي الأخير هناك ضمير
الغائبة المفردة (إساءتها، رعاها، ودها، هامت...) دلالة على النفس التي تغتر
بملذات الدنيا.بينما الأفعال جاءت منصرفة في الزمن الماضي تارة ( هامت – جحدتها –
كتمت – جاء ....)، وتارة أخرى منصرفة في الزمن الحاضر (يبقى – يفنى- ).
صفوة القول، إن القصيدة التي حللناها تنتمي إلى خطاب
إحياء النموذج، وكل مستوياتها تصرخ بذلك. فالشاعر عبر عن تجربته الشعرية. وقد
اعتمد في ذلك على معجم شعري كلاسيكي تراوحت ألفاظه بين ما يدل حالته الوجدانية وما
يدل على الموعظة والحكمة وما يدل على المدح. وقد استعان بالبلاغة القديمة
والمتمثلة في الاستعارة والتشبيه والكناية.أما من حيث الإيقاع فقد وظف إيقاعا
خارجيا اعتمد فيه على وحدة الوزن والروي والقافية، كما اعتمد على تقنية التصريع في
مطلع القصيدة، واستند في الإيقاع الداخلي على تكرار مجموعة من الألفاظ والعبارات
التي حققت وظيفة لإيقاعية ودلالية. وعلى هذا الأساس فإن القصيدة تمثل نموذجا قويا
لشعر البعث والإحياء سواء على مستوى المضمون، حيث ترتبط بمضمون قديم ( الغزل-
الحكمة- المدح)، أو من حيث الشكل حيث حافظت القصيدة على جميع خصائص القصيدة
الكلاسيكية في العصور الذهبية. . إذن، فصاحبه ممثلا لها، بل رائدا من روادها
الكبار لتمثيله الجيد لها.فهل يا ترى يعكس هذا النص وجها من أوجه إحياء النموذج؟
وإلى أي حد كان خطاب البعث والإحياء وصفة ناجعة لإخراج الشعر العربي من الانحطاط؟
0 الرد على "قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي (السنة الثانية باكالوريا أدب)"
إرسال تعليق