ابن الرومي في مدن الصفيح ( المتن الحكائي )
القراءة
التحليلية
المتن الحكائي :
فضاء المسرحية امتداد لكل المدن العربية التي تعيش وطأة التهميش والفقر، سكانها بسطاء، حرموا من أدنى شروط العيش. وتطرح المسرحية إلى جانب هم الإنسان في بلوغ قوته اليومي،هاجس المكان/المأوى كهدف ثان في حياة متقلبة.ليصير الإفراغ وحلول البنايات الجديدة الشاهقة عوض الواقع- الحي القصديري- آفة مجتمع الحي .وتحضر عريب رغم واقع المجون لتنقذ ابن الرومي من عزلته و تخرجه إلى معانقة هموم ومشاكل ذاته/المجتمع.
تحتوي مسرحية " ابن الرومي في مدن الصفيح" سبع عشرة لوحة احتفالية تجسد عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع.
يدخل ابن دنيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيازاد التي تذكرنا بأسماء شخوص ألف ليلة وليلة.لكن المسؤول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول مادام العرض المسرحي لم يبدأ؛ لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبار المخايلين المتخصصين في خيال الظل, وقد أتى إلى الركح من أوراق التراث الصفراء ليظهر ما لديه من الحكايات والمرايا بدلا من هذه المناظر والمشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها جاهدين، وفيها يفصلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية.
ويعرف ابن دنيال بنفسه وابنته، ويقدمان نفسهما للجمهور كراويين سيقدمان له مجموعة من شخصيات خيال الظل قصد تسليته وإفادته، وابن دنيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل. بعد ذلك، يتحلق الأطفال حول عربة خيال الظل التي تنعكس في ستارتها الظلال والأضواء لتنسج أنفاسا احتفالية من الخيال والواقع، ولتعبربحكاياها عن فئات مجتمع المدائن والأقطار، قريبة كانت أو بعيدة، بكل تناقضاتها الحياتية.
وينتقل الكاتب من الخيال، ومن لعبة خيال الظل إلى الواقع، واقع المدينة القصديرية ذات الأحياء الصفيحية حيث نلتقي بسكانها ولاسيما حمدان ورضوان وسعدان، هذه الطبقة الشعبية التي أنهكتها الظروف المزرية كالفقر والداء والبطالة وضغوطات الواقع التي لا تتوقف. يقصد المقدم هذه الفئة ليخبرها بضرورة الرحيل لتحويل هذا الحي الذي لا يناسبهم إلى فنادق سياحية جميلة تجذب السياح وتدر العملة الصعبة على البلد ريثما يجد لهم المجلس البلدي مكانا لإيوائهم في أحسن الظروف. لكن أهل الحي رفضوا هذا المقترح وقرروا أن يكون موعد الرحيل من اختيارهم أنفسهم بدلا من أن يفرض عليهم من فوق، وهو لا يخدمهم لا من قريب ولا من بعيد. وتدل الأسماء العلمية التي يحملها الثلاثة على السخرية والتهكم والمفارقة، إذ يدل حمدان على الحمد وسعدان على السعادة و رضوان على الرضى على غرار عنوان المسرحية الذي يثير الحيرة والاستغراب المفارق.
ويحاول ابن دنيال أن يستقطب أهل الحي وأطفاله الصغار لكي يقدم لهم فرجة تنعكس على خيال الظل بعوالمه الفنطاستيكية وشخصياته التاريخية والأسطورية؛ لكن هذه الحكايات والقصص لم تعد تثير فضول السامعين وتشد انتباههم. لأنها حسب دنيازاد بعيدة عن واقعهم الذي يعيشون فيه. لذلك اختارت دنيازاد أن يكون الموضوع قريبا من حقيقة المشاهدين يمس مشاكلهم ويعالج قضاياهم ويطرح همومهم، أي: أن يكون المعطى الفني شعبيا. وهذا ما قرر ابن دنيال أن يفعله، أن يحكي لهم قصة الشاعر ابن الرومي في مدينة بغداد التي قد تكون قناعا لكل المدن المعاصرة، كما يكون ابن الرومي الشاعر المثقف قناعا لكل المثقفين المعاصرين.
بعد ذلك، ينقلنا ابن دنيال عبر صور خيال الظل وظلاله إلى بغداد المعاصرة بأكواخها الفقيرة وأحيائها القصديرية ومنازلها الصفيحية لنجد ابن الرومي منغلقا على نفسه منطويا على ذاته لا يريد أن يفتح بابه على العالم الخارجي ليرى الواقع على حقيقته . ويزداد ابن الرومي الشاعر المنكمش الخائف على نفسه من العالم الخارجي تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس والتطفل عليهم، وجحظة الحلاق الذي كان يزعجه بأغانيه المستهجنة، ودعبل الأحدب بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء، وعيسى البخيل الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير.كل هذه الوجوه الشقية المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر العالم، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين والفقراء التعسين.لذا أغلق بابه على هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه النعم والأفضال من أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان، وخاصة رئيس المجلس البلدي. ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها عشيقة وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي إنسان، سيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار؛ مما جعله يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد المدينة وعالمها الخارجي ليعيش حياته في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل حواسه.
ويتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي متكسب لا يهمه سوى الحصول على الأعطيات والمنح من رجال الجاه والسيادة والسلطة، حيث سيشتري رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي الذي يعيش فيه مع أولائك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم من هذا الحي، وهدم أكواخه التي يعشش فيها الفقر والداء والبؤس والنحس وبناء فنادق سياحية تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم.
ويستمر ابن الرومي في تطيره ونحسه حيث لا يفتح الباب مطلقا ليعرف ماذا وراء عالمه الداخلي المقفل؛ بل كان يطل على الواقع الموضوعي من ثقب صغير في الباب، وكان لا يرى من بغداد سوى جيرانه الأشقياء التعساء، فيزداد تشاؤما إلى تشاؤم، وتسود الحياة في وجهه لولا الحب الذي تغدقه عليه جاريته الحسناء والأحلام اللذيذة التي تسعده في منامه ويقظته.
وينتقل ابن الرومي كما قدمه الراوي من شاعر متشائم متكسب إلى شاعر حالم مستلب ومغترب عن واقعه الخارجي، يعيش الخيال في واقعه، يركب السحاب وهو عالق بالتراب في كوخه الحقير، يتأفف من جيرانه الذين يحبونه ويحسون بمعاناته أيما إحساس.
ويتصالح ابن الرومي مع جيرانه الذين قرروا الارتحال بعيدين عنه حتى يكون سعيدا في حياته ماداموا قد أصبحوا في رأيه رموز الشر والنحس والتطير والتشاؤم؛ لكن ابن الرومي سيتعلم درسا مفيدا من عريب التي صارت حرة بعد انعتاقها من الرق وعبودية العقود المزيفة واختارت العيش معه شرط أن يفتح بابه للآخرين ولجيرانه الذين هم ضحايا لواقع الاستلاب والاستغلال من طغمة الجاه والسلطة، في هذا الحي الشعبي مع هؤلاء الناس الطيبين الأبرياء المزدرين من قبل المسؤولين وأصحاب القرار الذين يريدون ترحيلهم للاستيلاء على حيهم الذي يقطنونه واستثماره في مشاريعهم المدرة للغنى.
وسيصبح ابن الرومي شاعرا ثائرا يتصالح مع جيرانه، ويمنعهم من الرحيل، ويعترف بأخطائه الجسيمة التي اقترفها في حقهم، وبأن سماسرة السراب هم المسؤولون عن هذا الاستلاب والتخدير الاجتماعي، ويعدهم أن يكونوا يدا واحدة في وجه المستغلين وبائعي الأحلام الزائفة.
وتختار عريب في الأخير أن تدفع الشاعر إلى معرفة العالم الخارجي لتحريره من خياله وأوهامه وأحلامه وانكماشه الداخلي واغترابه الذاتي والمكاني، فأرسلته ليبحث لها عن خلخالها الذي ضاع منها في السوق؛ وبعد تردد وتجاهل قرر ابن الرومي أن ينزل عند رغبة عريب وأن يبحث لها عن خلخالها.
تجسد المسرحية - إذن- تقابلا بين عالمين: عالم الكلمة وعالم الحركة، وبين عالم الخيال الحالم والواقع المدقع، إنها ثنائية جدلية تصور صراع المثقف العربي مع السلطة والواقع وأخيه الإنسان. لقد لاحظنا أن ابن الرومي عبر المسرحية مر بعدة مراحل:
1- ابن الرومي الشاعر المتشائم المنكمش
2- ابن الرومي الشاعر العاشق
3- ابن الرومي الشاعر المتكسب والمستلب
4- ابن الرومي الشاعر الثائر المتحرر من أوهامه.
إذ بعد الموت والضياع والاستلاب والانكماش الذاتي والموضوعي يعود الشاعر إلى الحياة مرة أخرى شاعرا جديدا يعانق قضايا الناس وهمومهم ويكابد آلامهم ومعاناتهم ويحارب معهم سماسرة الزيف والسراب، إنه يموت لينبعث من جديد على غرار أسطورة العنقاء التي قوامها الاحتراق والموت والتجدد مرة أخرى، كل ذلك بفضل فلسفة عشيقته عريب التي اقترحت عليه أن يتيه في العالم الخارجي ليعرف الواقع على حقيقته الواضحة دون زيف أو قناع. وهذا ما جعل عبد الكريم برشيد يقر بأن هذه المسرحية شاملة ومركبة من عدة مستويات: " لأن المسرحية تعتمد على بناء مركب. بناء تجسده مستويات متعددة ومتناقضة- مستوى الواقع- ومستوى خيال الظل- الحقيقية- الحلم- الوعي- اللاوعي- الحاضر- الماضي- أل(هنا)- أل(هناك)، ويمكن أن نحصر كل هذه المستويات وأن نختصرها في مستويين اثنين أساسين:
ـ مستوى الواقع، حيث الأحداث داخل حي قصديري منتزع من نفس المدينة التي تعرض بها المسرحية ومن نفس زماننا.
ـ أما المستوى الثاني فيدور داخل صندوق خيال الظل. وهو صندوق المخايل شمس الدين بن دانيال وابنته دنيازاد فيما بينهما. وعلى هذا الأساس فإن قصة ابن الرومي لا يمكن أن ينظر إليها نظرة واحدة موحدة..." ولكن من المؤكد أن لها ما يعادلها في الواقع. ثم إن المبدع ليس مطالبا باستنساخ هذا الواقع حتى نطالبه بأن يعكسه لنا عكسا فوتوغرافيا. فالواقع معطى تاريخي ولكنه أيضا حركة لا تعرف الاستقرار. لهذا فالمبدع مطالب بتشريحه في أبعاده المختلفة والمعقدة عبر متغيراته وثوابته من أجل تغييره وخلق المستقبل".
ويتبين لنا كذلك أن مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح مسرحية متركبة من لوحتين منفصلتين: لوحة واقع المدينة بأحيائها القصديرية وبؤسها المأساوي وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الاجتماعي والطبقي(لوحة الواقع الاجتماعي)، ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخييل الدرامي عن طريق خيال الظل( التخييل التاريخي والتراثي). وداخل هذا السرد التخييلي نجد صراعا بين راو يعيش على أنقاض الماضي والبطولة الضائعة وراو يعيش عصره ويعانق همومه مثل المثقف العضوي الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي.كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة " ابن الرومي- ابن دانيال" والمعاصرة " واقع المدينة".وتبقى المدينة فضاء دراميا وسينوغرافيا لكثير من الكتابات المسرحية لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان المعاصر بسبب الطابع التشييئي للعلاقات الإنسانية الناتجة عن الرأسمالية الجشعة والليبرالية الاقتصادية الفردية والعولمة التي صارت تغولا من شدة الاحتكار والتغريب وتحييد الأصالة وكل الخصوصيات الحضارية والفكرية للشعوب الضعيفة أو النامية، وهو ما نجده في مسرحيات برشيد الأخرى مثل: إمرؤ القيس في باريس، والنمرود في هوليود أو عند المسكيني الصغير في: عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية، والخروج من معرة النعمان، و في أهل المدينة الفاضلة لرضوان أحدادو، ومرتجلة فاس لمحمد الكغاط، ومدينة العميان لمحمد الوادي، والهجرة من المدينة لعبد الكريم الطبال.
ويتبين لنا مما سلف، أن مسرحية ابن الرومي هي مسرحية احتفالية اجتماعية واقعية جدلية تستحضر التراث لغربلته وتعريته وتشخيص عيوبه قصد إضاءته من جديد وإعادة بنائه أو ترمييمه عبر النقد الذاتي والتغيير الداخلي. وفي هذا الصدد يقول الدكتور مصطفى رمضاني: " برشيد قد وظف شخصية ابن الرومي كرمز للمثقف العربي غير المتموضع طبقيا، لأنه يعيش أزمة التأرجح بين طموحاته الطبقية والإحباطات المتتالية التي يعيشها في المجتمع. لهذا وجدناه يصور ابن الرومي كشخصية مركبة: ابن الرومي الوصولي، ابن الرومي العالم، ابن الرومي الثائر. فابن الرومي شخصية قد خلقها برشيد من خياله حقا."
الشخصيات الدرامية
فضاء المسرحية امتداد لكل المدن العربية التي تعيش وطأة التهميش والفقر، سكانها بسطاء، حرموا من أدنى شروط العيش. وتطرح المسرحية إلى جانب هم الإنسان في بلوغ قوته اليومي،هاجس المكان/المأوى كهدف ثان في حياة متقلبة.ليصير الإفراغ وحلول البنايات الجديدة الشاهقة عوض الواقع- الحي القصديري- آفة مجتمع الحي .وتحضر عريب رغم واقع المجون لتنقذ ابن الرومي من عزلته و تخرجه إلى معانقة هموم ومشاكل ذاته/المجتمع.
تحتوي مسرحية " ابن الرومي في مدن الصفيح" سبع عشرة لوحة احتفالية تجسد عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع.
يدخل ابن دنيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيازاد التي تذكرنا بأسماء شخوص ألف ليلة وليلة.لكن المسؤول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول مادام العرض المسرحي لم يبدأ؛ لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبار المخايلين المتخصصين في خيال الظل, وقد أتى إلى الركح من أوراق التراث الصفراء ليظهر ما لديه من الحكايات والمرايا بدلا من هذه المناظر والمشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها جاهدين، وفيها يفصلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية.
ويعرف ابن دنيال بنفسه وابنته، ويقدمان نفسهما للجمهور كراويين سيقدمان له مجموعة من شخصيات خيال الظل قصد تسليته وإفادته، وابن دنيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل. بعد ذلك، يتحلق الأطفال حول عربة خيال الظل التي تنعكس في ستارتها الظلال والأضواء لتنسج أنفاسا احتفالية من الخيال والواقع، ولتعبربحكاياها عن فئات مجتمع المدائن والأقطار، قريبة كانت أو بعيدة، بكل تناقضاتها الحياتية.
وينتقل الكاتب من الخيال، ومن لعبة خيال الظل إلى الواقع، واقع المدينة القصديرية ذات الأحياء الصفيحية حيث نلتقي بسكانها ولاسيما حمدان ورضوان وسعدان، هذه الطبقة الشعبية التي أنهكتها الظروف المزرية كالفقر والداء والبطالة وضغوطات الواقع التي لا تتوقف. يقصد المقدم هذه الفئة ليخبرها بضرورة الرحيل لتحويل هذا الحي الذي لا يناسبهم إلى فنادق سياحية جميلة تجذب السياح وتدر العملة الصعبة على البلد ريثما يجد لهم المجلس البلدي مكانا لإيوائهم في أحسن الظروف. لكن أهل الحي رفضوا هذا المقترح وقرروا أن يكون موعد الرحيل من اختيارهم أنفسهم بدلا من أن يفرض عليهم من فوق، وهو لا يخدمهم لا من قريب ولا من بعيد. وتدل الأسماء العلمية التي يحملها الثلاثة على السخرية والتهكم والمفارقة، إذ يدل حمدان على الحمد وسعدان على السعادة و رضوان على الرضى على غرار عنوان المسرحية الذي يثير الحيرة والاستغراب المفارق.
ويحاول ابن دنيال أن يستقطب أهل الحي وأطفاله الصغار لكي يقدم لهم فرجة تنعكس على خيال الظل بعوالمه الفنطاستيكية وشخصياته التاريخية والأسطورية؛ لكن هذه الحكايات والقصص لم تعد تثير فضول السامعين وتشد انتباههم. لأنها حسب دنيازاد بعيدة عن واقعهم الذي يعيشون فيه. لذلك اختارت دنيازاد أن يكون الموضوع قريبا من حقيقة المشاهدين يمس مشاكلهم ويعالج قضاياهم ويطرح همومهم، أي: أن يكون المعطى الفني شعبيا. وهذا ما قرر ابن دنيال أن يفعله، أن يحكي لهم قصة الشاعر ابن الرومي في مدينة بغداد التي قد تكون قناعا لكل المدن المعاصرة، كما يكون ابن الرومي الشاعر المثقف قناعا لكل المثقفين المعاصرين.
بعد ذلك، ينقلنا ابن دنيال عبر صور خيال الظل وظلاله إلى بغداد المعاصرة بأكواخها الفقيرة وأحيائها القصديرية ومنازلها الصفيحية لنجد ابن الرومي منغلقا على نفسه منطويا على ذاته لا يريد أن يفتح بابه على العالم الخارجي ليرى الواقع على حقيقته . ويزداد ابن الرومي الشاعر المنكمش الخائف على نفسه من العالم الخارجي تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس والتطفل عليهم، وجحظة الحلاق الذي كان يزعجه بأغانيه المستهجنة، ودعبل الأحدب بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء، وعيسى البخيل الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير.كل هذه الوجوه الشقية المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر العالم، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين والفقراء التعسين.لذا أغلق بابه على هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه النعم والأفضال من أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان، وخاصة رئيس المجلس البلدي. ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها عشيقة وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي إنسان، سيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار؛ مما جعله يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد المدينة وعالمها الخارجي ليعيش حياته في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل حواسه.
ويتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي متكسب لا يهمه سوى الحصول على الأعطيات والمنح من رجال الجاه والسيادة والسلطة، حيث سيشتري رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي الذي يعيش فيه مع أولائك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم من هذا الحي، وهدم أكواخه التي يعشش فيها الفقر والداء والبؤس والنحس وبناء فنادق سياحية تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم.
ويستمر ابن الرومي في تطيره ونحسه حيث لا يفتح الباب مطلقا ليعرف ماذا وراء عالمه الداخلي المقفل؛ بل كان يطل على الواقع الموضوعي من ثقب صغير في الباب، وكان لا يرى من بغداد سوى جيرانه الأشقياء التعساء، فيزداد تشاؤما إلى تشاؤم، وتسود الحياة في وجهه لولا الحب الذي تغدقه عليه جاريته الحسناء والأحلام اللذيذة التي تسعده في منامه ويقظته.
وينتقل ابن الرومي كما قدمه الراوي من شاعر متشائم متكسب إلى شاعر حالم مستلب ومغترب عن واقعه الخارجي، يعيش الخيال في واقعه، يركب السحاب وهو عالق بالتراب في كوخه الحقير، يتأفف من جيرانه الذين يحبونه ويحسون بمعاناته أيما إحساس.
ويتصالح ابن الرومي مع جيرانه الذين قرروا الارتحال بعيدين عنه حتى يكون سعيدا في حياته ماداموا قد أصبحوا في رأيه رموز الشر والنحس والتطير والتشاؤم؛ لكن ابن الرومي سيتعلم درسا مفيدا من عريب التي صارت حرة بعد انعتاقها من الرق وعبودية العقود المزيفة واختارت العيش معه شرط أن يفتح بابه للآخرين ولجيرانه الذين هم ضحايا لواقع الاستلاب والاستغلال من طغمة الجاه والسلطة، في هذا الحي الشعبي مع هؤلاء الناس الطيبين الأبرياء المزدرين من قبل المسؤولين وأصحاب القرار الذين يريدون ترحيلهم للاستيلاء على حيهم الذي يقطنونه واستثماره في مشاريعهم المدرة للغنى.
وسيصبح ابن الرومي شاعرا ثائرا يتصالح مع جيرانه، ويمنعهم من الرحيل، ويعترف بأخطائه الجسيمة التي اقترفها في حقهم، وبأن سماسرة السراب هم المسؤولون عن هذا الاستلاب والتخدير الاجتماعي، ويعدهم أن يكونوا يدا واحدة في وجه المستغلين وبائعي الأحلام الزائفة.
وتختار عريب في الأخير أن تدفع الشاعر إلى معرفة العالم الخارجي لتحريره من خياله وأوهامه وأحلامه وانكماشه الداخلي واغترابه الذاتي والمكاني، فأرسلته ليبحث لها عن خلخالها الذي ضاع منها في السوق؛ وبعد تردد وتجاهل قرر ابن الرومي أن ينزل عند رغبة عريب وأن يبحث لها عن خلخالها.
تجسد المسرحية - إذن- تقابلا بين عالمين: عالم الكلمة وعالم الحركة، وبين عالم الخيال الحالم والواقع المدقع، إنها ثنائية جدلية تصور صراع المثقف العربي مع السلطة والواقع وأخيه الإنسان. لقد لاحظنا أن ابن الرومي عبر المسرحية مر بعدة مراحل:
1- ابن الرومي الشاعر المتشائم المنكمش
2- ابن الرومي الشاعر العاشق
3- ابن الرومي الشاعر المتكسب والمستلب
4- ابن الرومي الشاعر الثائر المتحرر من أوهامه.
إذ بعد الموت والضياع والاستلاب والانكماش الذاتي والموضوعي يعود الشاعر إلى الحياة مرة أخرى شاعرا جديدا يعانق قضايا الناس وهمومهم ويكابد آلامهم ومعاناتهم ويحارب معهم سماسرة الزيف والسراب، إنه يموت لينبعث من جديد على غرار أسطورة العنقاء التي قوامها الاحتراق والموت والتجدد مرة أخرى، كل ذلك بفضل فلسفة عشيقته عريب التي اقترحت عليه أن يتيه في العالم الخارجي ليعرف الواقع على حقيقته الواضحة دون زيف أو قناع. وهذا ما جعل عبد الكريم برشيد يقر بأن هذه المسرحية شاملة ومركبة من عدة مستويات: " لأن المسرحية تعتمد على بناء مركب. بناء تجسده مستويات متعددة ومتناقضة- مستوى الواقع- ومستوى خيال الظل- الحقيقية- الحلم- الوعي- اللاوعي- الحاضر- الماضي- أل(هنا)- أل(هناك)، ويمكن أن نحصر كل هذه المستويات وأن نختصرها في مستويين اثنين أساسين:
ـ مستوى الواقع، حيث الأحداث داخل حي قصديري منتزع من نفس المدينة التي تعرض بها المسرحية ومن نفس زماننا.
ـ أما المستوى الثاني فيدور داخل صندوق خيال الظل. وهو صندوق المخايل شمس الدين بن دانيال وابنته دنيازاد فيما بينهما. وعلى هذا الأساس فإن قصة ابن الرومي لا يمكن أن ينظر إليها نظرة واحدة موحدة..." ولكن من المؤكد أن لها ما يعادلها في الواقع. ثم إن المبدع ليس مطالبا باستنساخ هذا الواقع حتى نطالبه بأن يعكسه لنا عكسا فوتوغرافيا. فالواقع معطى تاريخي ولكنه أيضا حركة لا تعرف الاستقرار. لهذا فالمبدع مطالب بتشريحه في أبعاده المختلفة والمعقدة عبر متغيراته وثوابته من أجل تغييره وخلق المستقبل".
ويتبين لنا كذلك أن مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح مسرحية متركبة من لوحتين منفصلتين: لوحة واقع المدينة بأحيائها القصديرية وبؤسها المأساوي وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الاجتماعي والطبقي(لوحة الواقع الاجتماعي)، ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخييل الدرامي عن طريق خيال الظل( التخييل التاريخي والتراثي). وداخل هذا السرد التخييلي نجد صراعا بين راو يعيش على أنقاض الماضي والبطولة الضائعة وراو يعيش عصره ويعانق همومه مثل المثقف العضوي الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي.كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة " ابن الرومي- ابن دانيال" والمعاصرة " واقع المدينة".وتبقى المدينة فضاء دراميا وسينوغرافيا لكثير من الكتابات المسرحية لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان المعاصر بسبب الطابع التشييئي للعلاقات الإنسانية الناتجة عن الرأسمالية الجشعة والليبرالية الاقتصادية الفردية والعولمة التي صارت تغولا من شدة الاحتكار والتغريب وتحييد الأصالة وكل الخصوصيات الحضارية والفكرية للشعوب الضعيفة أو النامية، وهو ما نجده في مسرحيات برشيد الأخرى مثل: إمرؤ القيس في باريس، والنمرود في هوليود أو عند المسكيني الصغير في: عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية، والخروج من معرة النعمان، و في أهل المدينة الفاضلة لرضوان أحدادو، ومرتجلة فاس لمحمد الكغاط، ومدينة العميان لمحمد الوادي، والهجرة من المدينة لعبد الكريم الطبال.
ويتبين لنا مما سلف، أن مسرحية ابن الرومي هي مسرحية احتفالية اجتماعية واقعية جدلية تستحضر التراث لغربلته وتعريته وتشخيص عيوبه قصد إضاءته من جديد وإعادة بنائه أو ترمييمه عبر النقد الذاتي والتغيير الداخلي. وفي هذا الصدد يقول الدكتور مصطفى رمضاني: " برشيد قد وظف شخصية ابن الرومي كرمز للمثقف العربي غير المتموضع طبقيا، لأنه يعيش أزمة التأرجح بين طموحاته الطبقية والإحباطات المتتالية التي يعيشها في المجتمع. لهذا وجدناه يصور ابن الرومي كشخصية مركبة: ابن الرومي الوصولي، ابن الرومي العالم، ابن الرومي الثائر. فابن الرومي شخصية قد خلقها برشيد من خياله حقا."
الشخصيات الدرامية
0 الرد على "ابن الرومي في مدن الصفيح ( المتن الحكائي )"
إرسال تعليق