-->

خصائص القصيدة الرومانسية



الرومانسية في أبسط تعريفاتها هي توجه نقدي إبداعي أدبي سعي إلى إحداث ثورة على التقاليد والتحرر من النظم الكلاسيكية في الأدب والفن بشكل عام، وقد ظهر التيار الرومانسي في الأدب العربي والشعر على وجه الخصوص بفعل تضافر جملة من العوامل أبرزها التحولات العميقة التي عاشتها المجتمعات العربية في النصف الأول من القرن العشرين، واحتكاك الشعراء العرب بالثقافات الغربية وتأثرهم بأعلام الرومانسية في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، إضافة إلى حالة الإحباط التي اعترت المثقفين والشعراء والفنانين العرب بسبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتأزمة في جل الأقطار العربية.

وقد ـأدخل شعراء الرومانسية جملة من المتغيرات على مضامين القصيدة العربية، فاستغنوا عن الأغراض الشعرية الموروثة واستبدلوها بموضوع واحد وهو التعبير عن الذات، وفسح المجال لعبقرية الشاعر من أجل التعبير عن نفسه والإفصاح عن همومه وأحزانه وآلامه وهواجسه وأحلامه، ونستشعر هذه النزعة الذاتية المفرطة عند كل الشعراء الرومانسية بدون استثناء، لكن مع اختلاف ملحوظ بينهم من حيث طبيعة التجارب النفسية التي يعيشها كل شاعر. إضافة إلى الإفراط في النزعة الذاتية يستشعر القارئ للشعر الرومانسي مسحة قوية من الحزن والحيرة والكآبة واليأس والأسى والضجر والقلق الوجودي والنفسي الدائم والإغراق في البكائية والتشاؤم، ونجد هذا الأمر عند شعراء الرابطة القلمية بشكل واضح، مثل ميخائيل نعيمة في قصيدة" النهر المتجمد":

بالأمس كنت إذا سمهت تنهدي وتوجعي

تبكي، وها أبكي انا وحدي ولا تبكي معي

قد كان لي يا نهر قلب ضاحك مثل المروج

حر كقلبك فيه أهواء وآمال تموج

قد كان يضحي غير ما يمسي ولا يشكو الملل

واليوم قد جمدت كوجهك فيه أمواج الأمل

 وكذلك في قصيدة "أغنية ريفية "لعلي محمود طه:

 

أطالع وجهك تحت النخيل ** وأسمع صوتك عند النهر

إلى أن يمل الدجى وحشتي ** وتشكو الكآبة من الضجر

 

      ومما يميز مضامين القصيدة الرومانسية أيضا الطابع الفلسفي والمسحة الصوفية التي نجدها عند عدد من الشعراء، وهذا ليس بالأمر المستغرب لأن نصوص الفلاسفة والصوفية مثلت إحدى المرجعيات التي استند إليها شعراء هذا التيار فرسموا لأنفسهم صورة قريبة من صور المتصوفة والقديسين والمتأملين من حيث الزهد والانعزال الاعتكاف والتأمل العميق في الكون والوجود والحياة والنفس الإنسانية، وتبدو هذه الصورة واضحة في قصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران:

 

هل فرشت العشب ليلا وتلحفت الفضا

زاهدا في ما سياتي ناسيا ما قد مضى

أعطني الناي وغن وانس داء ودواء

إنما الناس سطور كتبت لكن بماء

  

كما اتخذ الشاعر الرومانسي موقفا سلبيا من عالم البشر وانفصل عنه واعتبره مرادفا للشرور والأحقاد والبشاعة والصراع والنفاق والقيح بمختلف أشكاله، واعتبره واقعا منحطا ومصطنعا  وخادعا، فهرب منه نحو عوالم الطبيعة لكنه أعاد تشكيل عناصرها ليصنع منها عالما مثاليا قوامه الحلم والخيال والجمال والنقاء والصفاء الروحي والنفسي وفي هذا السياق يقول جبران خليل جبران في قصيدة "المواكب":

 

الخير في الناس مصنوع وإن جبروا **  والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا

والحب في الناس أشكال وأكثره ا **  كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر

هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور

فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور

هل تحممت بعطر  وتنشقت بنور

هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب

والعناقيد تدلت كثريات الذهب

 

أما من حيث الشكل فقد بقيت القصيدة الرومانسية متأرجحة بين النموذج العمودي القديم وأشكال أخرى مثل شكل الموشح  ونظام المقاطع والجمع بين نظام الأبيات ونظام الأشطر، كما تميزت لغة الرومانسيين بالبساطة والوضوح والشفافية والخلو من التعقيدات المعجمية لأن اللغة كانت بالنسبة إليهم مجرد وسيلة لنقل أحاسيس لأكبر قدر ممكن من القراء ولم تكن غاية في حد ذاتها كما هو الحال عند شعراء الإحياء، أما من حيث الخصائص الإيقاعية فقد حافظ الكثير من الشعراء على البنية القديمة في المقابل حاول البعض إدخال بعض المتغيرات مثل الجمع بين بحرين في قصيدة واحدة وتنويع القوافي وحروف الروي لمسايرة التموجات النفسية والتقلبات المزاجية واعتماد القافية المقطعية والقافية الداخلية واللازمة الإيقاعية وإغناء الموسيقى الداخلية لإكساب القصيدة نفسا غنائيا.

 ومن الناحية البيانية والتصويرية لم تبق الصور الشعرية كما كانت عند الإحيائيين مجرد زخارف لغوية وحلي لفظية معزولة عن تجربة الشاعر وذات وظيفة جمالية فقط بل أصبحت لها أبعاد تعبيرية قوية ووسيلة من وسائل الإفصاح عن هموم الشاعر الرومانسي وآماله وآلامه وأحلامه وعوالمه الروحانية والخيالية، كما أن بعض شعراء التيار الذاتي استعانوا بوسيلة بيانية جديدة هي الرمز المأخوذ من عالم الطبيعة مثل رمز "النهر" عند ميخائيل نعيمة ورمز "النسر" عند عمر أبو ريشة وبشارة الخوري.               

مما لاشك فيه أن ما خلفه شعراء الرومانسية من نصوص وقصائد يعد بكل المقاييس حلقة هامة في مسار تطور القصيدة العربية الحديثة خاصة من الناحية المضمونية، إلا أن التيار الذاتي لقي نهاية مأساوية يمكن إرجاعها إلى أسباب خارجية أهمها النقد المحافظ وأسباب ذاتية داخلية مثل النزاع بين الشعراء والسقوط في فخ الرتابة والنمطية والبكائية والإغراق في الذاتية والحلم والمثالية والبعد عن الواقع والمجتمع والتأرجح بين أشكال متعددة والفشل في بلورة نموذج شعري واضح المعالم والتردد في ممارسة فعل التجديد بشكل تام وواسع. 

    يسري العزب، "القصيدة الرومانسية"، بتصرف، ص-ص.224-226.  

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على " خصائص القصيدة الرومانسية"

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات