مميزات الشعر في العصر الجاهلي (منقول)
الإنسان صنيعة الاقليم، فتتغير اطواره وأحواله بتغير البيئة المحيطة به. ويظهر أثر ذلك في نتاج قريحته او فكرته. وقد رأيت ان العرب اختلفت احوالهم في العصر الاموي عما كانت عليه في زمن الجاهلية او في زمن صدر الإسلام فظهر أثر ذلك في ثمار قرائحهم وخصوصا الشعر. واليك اهم مميزاته في ذلك العصر:
1- خلوه من وحشي الكلام: ان قرب العصر الاموي من الجاهلية ورغبة الأمويين في البداوة وتقليدهم عرب الجاهلية في آدابهم واشعارهم، كل ذلك أبقى للشعر الاموي بلاغة الجاهلية وسلامتها من العجمة والركاكة. لكن الإسلام اكسبه اسلوب القرآن والحديث، فتخلص من التركيب الغريب والكلام الوحشي، فهو من حيث البلاغة أحسن في هذا العصر مما في سائر العصور وان كان لكل عصر مميزات
2- كثرة التشبيب : كان الشاعر الجاهلي يقول الابيات تغزلا في حبيبته، يعبر بذلك عن حبه او ما تكنه جوارحه من الغرام او الشوق، ولا يشبب في غير حبيبته او خطيبته، فلا يسميها بغير اسمها . والغالب ان يكنى عنه بإحدى عرائس الشعر لئلا يعلم أهله بتشبيبه فيمنعوه من التزوج بها، لأنهم كانوا شديدي الغيرة على النساء حتى ان أحدهم إذا سطا عليه عدو وخاف على حياته منه عمد الى امراته او حبيبته فيقتلها غيرة عليها من ان يمسها سواه بعد موته (1). ويندر في الجاهليين ان يشبب شاعرهم بغير حبيبته. وإذا فعل فلداع فوق العادة، كما فعل دريد بن الصمة اذ رثى اخاه بقصيدة صدرها بأبيات غزلية (2). وقد رأيت الشعراء العشاق في الجاهلية يعدون على الاصابع، فأصبحوا في العصر الاموي اضعاف ذلك، وأكثروا من وصف الحب واعراضه واحواله ..
وذلك طبيعي في الامة بانتقالها من البداوة الى الحضارة، وخصوصا إذا كان ذلك على إثر الفتوح وفيها الغنائم من السبايا .. فيصيب الرجل منهم جارية او بعض جوار في كل معركة من المعارك. وكانت السبايا في صدر الإسلام كثيرات، واكثرهن من الروم والفرس. والفاتحون يبيعونهن او يستخدمونهن في حاجات المنزل، ويستبقون الجميلات منهن للتسري. فتحركت القلوب وتنبهت القرائح للموضوعات الغزلية، وصار الشعراء يشببون بالنساء الجميلات، وكان الخلفاء الراشدون يعدون ذلك خروجا عن حرمة الأدب، فجعلوا التشبيب ذنبا يستوجب القصاص، وكان عمر بن الخطاب لا يسمع بشاعر يشبب بامرأة الى جلده (3)
فلما افضت الدولة الى بني امية – وقد انتقلت عاصمتها من المدينة الى دمشق، وكثر الاختلاط بالأعاجم، واخذ العرب بأسباب الحضارة، وذهبت هيبة العفة من نفوسهم، وانقضت شدة الخلفاء الراشدين في المحافظة عليها – هان عليهم التشبيب، فأكثروا منه ولا سيما في المدينة لان أهلها اغرقهم معاوية بالعطايا والرواتب ليشغلهم باللهو عن طلب الملك. فكانوا ينفقون الأموال على المغنين ونحوهم، فكثر اللهو في المدينة وسبقت سائر المدائن الإسلامية الى الغناء وشاع القصف بين أهلها وتجرأ الشعراء على التشبيب بغير احبائهم.
3- المهاجاة بين الشعراء: كان الجاهليون يتنافسون ويتفاخرون فيذكر أحدهم ما في قبيلته من الشجاعة والنجدة وما أوتوه من النصر او الغلبة او ما هم عليه من هذه الفضائل. ويندر فيهم من يتخطى ذلك الى الهجو. وأكثر من تخطاه منهم المخضرمون كما تقدم. وقد كثر الهجو واتسعت دائرته في العصر الأموي واجاد الشعراء فيه. ولبعضهم مهاجاة ونقائض تدخل في كتاب ضخم.
4- نبوغ الموالي في الشعر: فقد رأيت انه لم يقل الشعر في الجاهلية من الموالي الا عبد بني الحسحاس. واما في الإسلام فانتظم في عداد الشعراء طائفة من الموالي وهم المسلمون غير العرب (4)، وفيهم الفرس والروم ممن دخل في حوزة العرب في أثناء الفتح ثم أسلموا. واكثرهم من موالي بني أسد وقريش. وفيهم جماعة من نوابغ الشعراء. ولولا تقيد القوم بأساليب الجاهلية لأدخلوا كثير من المعاني الشعرية نقلا عن لغاتهم الأصلية.
5- الشعر السياسي او المديح للاستجداء: قد علمت مما تقدم ان الشعراء الجاهليين نظموا المديح، لكنهم قلما كانوا يستجدون بمدحهم .. وانما كانوا يمدحون شكرا لصنيع. واما في العصر الاموي، فأصبح الغرض الأول من المدح التماس العطاء، وقد جرهم الى ذلك استدرار الخلفاء للمدح ببذل الأموال للأسباب التي قدمناها.
فأصبح الاستجداء مادة مألوفة، ونبغت طائفة كبيرة من المداحين، وكانوا يتذبذبون في مدحهم تبعاً لما يرجونه من العطاء او يخافونه من النقمة. ولذلك كان أكثر مديحهم في الأمويين أصحاب السيادة وبيت المال. وربما مدح أحدهم بني هاشم او آل الزبير او غيرهم من اعداء الأمويين، ثم رغب عنهم الى هؤلاء التماسا لعطائهم او خوفا من غضبهم لأن الأمويين كانوا يغضبون على الشعراء إذا مدحوا سواهم ويتطرقون الى الانتقام منهم بكل وسيلة. فلا غرو إذا رأينا شعراء الشيعة ينظمون المدائح في الأمويين. ومن مدح بني هاشم وبني امية او بني الزبير وبني امية.
6- وصف الخمر: لم يتقن الشعراء وصف الخمر الا في العصر العباسي، لكنهم بدأوا بذلك في العصر الاموي على إثر انغماس الأمويين في القصف واللهو في أواخر الدولة، وأول من وصفها من المسلمين الوليد بن يزيد الخليفة الخليع السكير. وقد ذكر الخمر في الجاهلية عدى بن زيد والاعشى، ثم ذكرها الأخطل ووصف الزجاجة بقوله:
وتظل تتحفنا بها قروية ابريقها برقاعه ملثوم
فاذا تعاورت الأكف زجاجها نفحت فشم رياحها المزكوم (5)
ثم اجاد في وصفها الوليد بن يزيد بقصيدة قال منها:
من قهوة زانها تقادمها فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى الى الشرب يوم جلوتها من الفتاة الكريمة النسب
فقد تجلت ورق جوهرها حتى تبدت في منظر عجيب
فهي بغير المزاج من شرر وهي لدى المزج سائل الذهب
كأنها في زجاجها قبس تذكو ضياء في عين مرتقب
وله في وصف الخمر اشعار اخذها الشعراء في اشعارهم سلخوا معانيها ولاسيما أبو نواس، فانه سلخ معاني الوليد كلها وجعلها في شعره (6). واخذ أبو نواس أيضاً من الحسين بن الضحاك (7)، وكان معاصرا له واخذ من والبة وكان استاذه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاغاني ج12
(2) العمدة ج1
(3) الاغاني ج4
(4) راجع تاريخ التمدن الإسلامي
(5) الأغاني ج8
(6و7) الأغاني 6
0 الرد على "مميزات الشعر في العصر الجاهلي (منقول)"
إرسال تعليق