الساميات: العربية والعبرانية بين النشأة والتطور .
لما كان الأمر لا يستقيم أبدا عند الحديث عن موضوع ما في مجال معين، دون الوقوف بإلمام عند المصطلح الدال عليه قصد إنتاج معرفة متماسكة عنه، ولما كانت اللغتان العربية والعبرية تنتميان إلى مجموعة اللغات السامية، - التي وفد المتكلمون بها في حقبة تاريخية غابرة في القدم، إلى المناطق الزراعية في أرض الرافدين وسوريا ولبنان القديم وفلسطين والحبشة. ويبدو أن هذه الشعوب السامية كانت تؤلف كتلة واحدة باجتماعها في صعيد جغرافي واحد، والتحدث بلهجات لغة واحدة وباشتراكها في أصل حضاري وتاريخي-، كان حريا بنا أن نعكف على دراسة ظروف نشأة وتطور كل لغة منهما على حدة، وكذا الوقوف عند أبرز التحولات والتغيرات التي وسمت مسارهما التاريخي وطبعته منذ الأمس حتى اليوم.
وسنتعرض أولا بالتعريف باللغة العبرانية وظروف نشأتها والمراحل التاريخية التي قطعتها، ثم أخيرا الطرق التي وصلتنا من خلالها.
1. اللغة العبرية ה שפה ה עברית :
. الجذور التاريخية والنشأة: تذهب جل الكتب المقدسة عند اليهود إلى أن إبراهيم العبري أب لشعبين عظيمين: هما العرب والعبرانيون ذرية إسماعيل وإسحاق ابني هاجر وسارة.
وقد اختلف العلماء في تحديد سبب تسمية إبراهيم عليه السلام بالعبري، فمنهم من ربط بين الاصطلاح "عبري" وبين واحد من الأجداد القدامى للعاديين (للساميين) وهو عابر بن شاليخ بن أرفكشاد بن سام، ومنهم من ذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام ، وصف بالعبري نسبة إلى أحد آبائه الأقدمين وهو عيبر עבר، ورأى آخرون أن كلمة عبري أو عبرية مشتقة من الفعل الثلاثي عبر، بمعنى قطع مرحلة من الطريق أو عبر الوادي أو النهر، أي التنقل والترحال، وبذلك تكون هذه التسمية تنطبق على سكان الصحراء.
وثمة رأي آخر يقول أن أصل الكلمة هو "خابيرو" وهي قبائل ظهرت في فترة معاصرة لظهور العبريين، كانت تغزو فلسطين، ورأي ثان ذهب إلى أن هذا الاصطلاح ذو مغزى طبقي اجتماعي، يستند بالأساس إلى ما ورد في سفر الخروج، حين أصبح اليهود في مصر لا يتمتعون بالمكانة الاجتماعية التي قد حظوا بها في فلسطين، فقد جاء فيه: "ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نختال لهم لئلا ينمو فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون في الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم .
وثمة نصوص توراتية تؤيد الرأي القائل بأن "عبر" تعني عرب أو بدو أو أعراب، ولم تكن تعني اسم جنس، ففي قصة يوسف تصف زوجة رئيس الشرطة يوسف بأنه رجل عبري، بأنه العبد العبري، وبأنه غلام عبري، ويدل هذا على أن المقصود تعبير تحقيري يتعامل به أهل الحضر مع أهل البدو".
ومعنى كلمة :عـبـر" في المعاجم العربية، أولئك الناس الغلف أي غير المختونين، والعبرانية لغة اليهود.
ويرجع تاريخ اللغة العبرية إلى حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما دخلت قبيلة إسرائيل أرض فلسطين، وتنحدر هذه اللغة من الفرع الكنعاني من اللغات السامية الغربية، إلى جانب الفينيقية والمؤابية والأوغارتية، وقد ورد ذكرها في سفر أشيعا تحت اسم لغة كنعان حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولدى مؤلفي العهد القديم باسم لسان كنعان לשון כנען أو لغة اليهود יהדית، إلى أن أخذت مع مطلع القرن الثاني الميلادي اسم اللغة العبرية השפה העברית في كتاب المشنا .
وعلى الرغم من تسميتها باللغة العبرية، إلا أنها ليست لغة جميع العبريين، بل هي فقط لغة فرع من فروعهم وهو فرع بني إسرائيل، حيث نزحوا (أي بنو إسرائيل) من شبه جزيرة سيناء وأغاروا على بلاد كنعان، ففتحوا قسما كبيرا منها ودانت لسلطانهم واستقروا بفلسطين حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومع أنهم دخلاء على هذه البلاد، فإن لغتهم تتفق مع لغاتها في معظم مظاهر الصوت والقواعد وأصول المفردات.
ويزعم العبرانيون أن لغتهم هي اللغة الأولى، وأن الله قد علم آدم هذه اللغة الشريفة، وهم يبنون دعواهم هذه على ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر التكوين : "وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية ، فهو اسمها . فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية"
وقد مرت العبرية بعدة أطوار، واجتازت مراحل كثيرة تأثرت في كل مرحلة منها بعدة مؤثرات، من أهمها الشؤون السياسية وما طرأ على وحدة بني إسرائيل واستقلالهم وعلاقتهم بالشعوب الأخرى. وترجع هذه المراحل إلى عصرين رئيسيين:
العصر الأول: يبدأ من نشأة هذه اللغة حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ويمتد إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، أي طوال المدة التي كانت في أثنائها العبرية لغة حية يتكلم بها بنو إسرائيل، ويسميها علماء اللغة في هذا العصر بالعبرية القديمة hébreu ancien، أو عبرية العهد القديم وهو الكتاب المقدس عند اليهود أو تنخ תנך ، اختصارا للعناوين الكبرى لأقسامه الثلاثة، وهي : التوراة תורה والأنبياء נביאים، والمكتوباتכתובים .وتسميته الشائعة في العربية هي التوراة، وذلك لأن أهم ما وصل إلينا في هذا العصر هي أسفار العهد القديم. وينقسم هذا العصر نفسه إلى مرحلتين:
1. المرحلة الأولى: تنتهي بنفي بابل سنة587 قبل الميلاد [...] وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الذهبية للغة العبرية Age d`or، حيث بلغت العبرية في هذه المرحلة عنفوان مجدها ووصلت إلى أقصى ما أتيح لها أن تصل إليه من الرقي والتهذيب واتساع النفوذ وقوة السلطان، وكانت في أثنائها فصيحة خالصة من الشوائب.
وأقدم ما وصل إلينا من آثار هذه المرحلة، غير الكتب المدونة نقش تاريخي هام، وهو اللوحة التذكارية لنبع عين السلوان Sibé التي عثر عليها سنة 1880 في النفق نفسه الذي انبجست منه هذه العين في قرية السلوان بالقرب من مدينة بيت المقدس، ويرجع تاريخ هذا النقش إلى السنين الأخيرة من القرن الثامن قبل الميلاد.
2. المرحلة الثانية: أما هذه المرحلة [...] فتبدأ من نفي بابل سنة 587 قبل الميلاد، وتنتهي بانقراض اللغة العبرية من التخاطب في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد وحلول الآرامية محلها، التي أخذت تسود منطقة الشام شيئا فشيئا قبل هذا التاريخ، وما نكاد نصل إلى القرن السادس قبل الميلاد حتى نجد اليهود يتعاملون باللغة الآرامية في حياتهم اليومية، وأوضح مثال لذلك أن المهاجرين اليهود الذين تركوا فلسطين في القرن السادس قبل الميلاد تقريبا كانوا يتعاملون مع سلطات القدس، كما تثبت كتاباتهم البردية باللغة الآرامية، ولم يكن تعاملهم باللغة العبرية. وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الفضية للغة العبرية Age d`argent، وقد أخذت عوامل الفناء منذ بداية هذه المرحلة تدب شيئا فشيئا إلى اللغة العبرية. "وأخذت الآرامية تقتحم عليها معاقلها وتنتقض من مناطقها قليلا قليلا حتى قضت عليها كما قضت على الأكادية من قبل".
وأهم ما وصل إلينا من آثار هذه المرحلة بعض أسفار العهد القديم (يونس، زكريا، قسم من دانيال... الخ) وبعض آثار أدبية تعد من أرقى ما وصل إلينا من هذه اللغة،ويبدو في مخلفات هذه المرحلة بوادر التأثر بالآرامية.
العصر الثاني: يبدأ من العهد الذي انقرضت فيه اللغة العبرية من التخاطب، واقتصر استخدامها على الكتابة وبعض الشؤون الدينية، أي من أواخر القرن الرابع قبل الميلاد إلى العصر الحاضر. وتسمى العبرية في هذا العصر بعبرية ما بعد العهد القديم (hébreu post-biblique). وينقسم هذا العصر كذلك إلى مرحلتين:
1. المرحلة الأولى: تنهي هذه المرحلة بفاتحة العصور الوسطى، وتسمى اللغة العبرية في هذه المرحلة بالعبرية الربانية أو التلمودية، وذلك لأن أهم ما وصل إلينا في هذه المرحلة هو بحوث الربانيين في التلمود.
وتختلف آثار هذه المرحلة في فصاحة لغتها وصحتها تبعا لاختلاف المؤلفين في مبلغ تمكنهم من هذه اللغة وإلمامهم بآدابها القديمة، ولكنها تمتاز على العموم بشدة تأثرها باللغة الآرامية.
2. المرحلة الثانية: وتبدأ هذه المرحلة من فاتحة العصور الوسطى حتى العصر الحاضر، ففي القرون الوسطى برزت حينها ما سمي آنذاك "بعبرية القرون الوسطى" التي نظمت بها الأشعار وألفت بها كتابات فلسفية وتفاسير للتوراة، وامتدت هذه العبرية حتى القرن الثامن عشر. لكن ومع مطلع القرن التاسع عشر هجرها العبرانيون لعدم قدرتها ولعدم مجاراتها بل ولعجزها كذلك عن التعبير عن العديد من الأمور المعقدة للحياة الفكرية الحديثة، وهو الشيء الذي مهد لميلاد وظهور العبرية الحديثة التي تجمع بين عبرية التوراة وعبرية القرون الوسطى، فسميت العبرية في هذه المرحلة بالعبرية الحديثة Neo hébreu أو Evrit، وهي تختلف (أي العبرية الحديثة) اختلافا كبيرا عن العبرية القديمة أو العبرية الكلاسيكية.
وقد تجلى هذا الاختلاف عن العبرية القديمة، في كون العبرية الحديثة تأثرت من جهة، باللغة العربية نظرا لشدة احتكاكهما من الناحية الثقافية، وإلى المؤلفات العربية التي نقلها علماء اليهود إلى العبرية [...]، وتأثرت من جهة ثانية باللغات الأوربية، وكان من مخلفات ذلك أن خف النطق بأصوات الحلق والإطباق، لعدم وجودها وتداولها في اللغات الأروبية. فتأثر نطق "الصاد" بنطق صوت (Z) في الألمانية، ويرجع هذا التأثير إلى لغة الييدش، والتي تشكل أنماطا متفاوتة من لهجات الألمانية الشمالية الممزوجة بعناصر من العبرية القديمة واللغات السلافية وسواها. وكان المتكلمون بهذه اللغة (أي الييدش) من اليهود ذووا مكانة سامية في الدولة الصهيونية، بيد أنهم رفضوا اعتبارها وجعلها اللغة الرسمية الأولى، لأن انتماءهم للعبرية يربطهم بتاريخهم القديم، ولا يفصلهم عاطفيا عن يهود المشرق.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ومع بداية ما يعرف بالإحياء القومي في العصر الحديث، منذ فترة "محبة صهيون" كما يعرف في الأدبيات اليهودية، ثم الهجرات إلى فلسطين والاستيطان الحديث فيها، قوى اتجاه اليهود في مختلف أنحاء العالم إلى إحياء اللغة العبرية التي تم بعثها من موتها لكي تصبح لغة حديث مشتركة لليهود في فلسطين، فكان أن وسعوا نطاق استعمالها في الشؤون الدينية والأدبية وفي ميادين الترجمة والتأليف، حتى غذت بفضل هذه العناية الكبيرة لغة التخاطب اليومي في البيت والشارع والإذاعة...
2-كيف وصلتنا العبرية:
لما كانت مصيبة اليهود في كتابهم حسب النظرة التي نظروا بها إليه سببا في موت اللغة العبرية، - إذ كانوا يعتقدون أن هذه اللغة قبل أن تنزل بها كانت لغة الرب ولغة الملائكة، وأن حروفها الاثنين والعشرين قد حفرها الله بيده في كبد السماء قبل أن يخلق شيئا على الأرض، وتزمتوا في ربطها بالدين، حتى فشلت كل المحاولات التي قام بها المصلحون من أنبيائهم لجعل الشريعة الموسوية شريعة عالمية، وذهبت دعوة أرمياء وأشعياء وغيرها أدراج الرياح. وعندما بعث المسيح كانت اللغة العبرية قد ماتت فعلا على ألسنة الناطقين وحلت محلها اللغة الآرامية، وكانت مسألة إحياء هذه اللغة نتيجة للعصبية العنصرية المتحفزة للصهيونية المعاصرة،- كان حريا بنا أن نعكف على معرفة الطرق التي وصلتنا عن طريقها هذه اللغة.
وقد بين صبحي الصالح هذه الطرق التي وصلت إلينا من خلالها العبرية، بقوله: " إنها وصلت عن طريق أسفار العهد القديم، وفي ثنايا بعض النقوش واللوحات الصخرية، وأحيانا عن طريق تلاوة اليهود لآيات التوراة وبعض الأوراد".
وأضاف علي عبد الواحد وافي إلى هذا، فرأى أن العبرية وصلتنا عن طريق ثلاثة مراجع، أحدها الكتب التي دونت بها، وهي أسفار العهد القديم والمشناة وملحقاتها وعدد كبير من المؤلفات القانونية والفلسفية والعلمية والأدبية التي دونها بهذه اللغة علماء اليهود في مختلف العصور. وثانيها بعض النقوش الأثرية على لوحات من الصخر والمعدن، وثالثها استخدام اليهود لها في تلاوة بعض الأوراد الدينية وآيات التوراة [...] التي كانت مكتوبة على البردي، وعلى الجلد، وسميت بلفائف البحر الميتLes rouleoux de la mer morte ، وترجع إلى الفترة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي .
ولم يصل إلينا عن هذه الطرق إلا لغة الكتابة كما هو شأن الأكادية والفينيقية، أما اللهجات التي كانت مستخدمة في التخاطب طوال المدة التي كانت العبرية خلالها لسان محادثة بين بني إسرائيل فلم يصل إلينا عنها شيء يعتد به.
وينضاف إلى هذا النقص في معلوماتنا عن اللغة العبرية نقص آخر، وهو أننا لم نقف بشكل يقيني على كيفية النطق بأصواتها ومفرداتها، وذلك أنه ليس من المراجع الثلاثة السابقة [...] ما يقفنا بشكل يقيني على كيفية النطق.
أما المراجع المدونة في الكتب أو النقوش على اللوحات الصخرية أو النقود فلا تمثل النطق العبري إلا في صورة ناقصة مبتورة، وذلك لأن الرسم العبري كسائر الرسم السامي كان يقتصر في مراحله الأولى على الرمز إلى الأصوات الساكنة في الكلمة.
وأما المرجع الثالث الذي وصلت إلينا عن طريقه هذه اللغة، فهو تلاوة اليهود لبعض الأوراد (الأذكار) وآيات التوراة... فلا يقفنا كذلك بشكل يقيني على النطق العبري الصحيح.
ومع مجيء الإسلام ومعرفته للآثار العبرية القديمة، وخصوصا تلكم المتعلقة بالجانب الديني، برزت الدعوة إلى ضرورة تعلم العبرية، إذ روى ابن سعد في طبقاته "عن ثابت بن عبيد الله، عن زيد بن ثابت، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يأتيني كتب من أناس لا أحب أن يقرأها أحد، فهل تستطيع أن تتعلم كتاب العبرانية؟ أو قال (السريانية) فقلت نعم، قال فتعلمتها في سبع عشرة ليلة".
وروى ابن سعد عن خارجة بن زيد بن ثابت، قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال لي: تعلم كتاب اليهود، فإني والله ما آمن من اليهود على كتابي، فتعلمته في أقل من نصف شهر
0 الرد على " الساميات: العربية والعبرانية بين النشأة والتطور ."
إرسال تعليق