-->

تحليل نص: "سوف يبين الحق" لمحمود سامي البارودي

 



تحليل نص: "سوف يبين الحق" لمحمود سامي البارودي               


 


 

جاءت مدرسة البعث والإحياء( إحياء النموذج) في زمن معاناة الشعر من أزمة حادة عرفت في تاريخ الأمة بعصر الانحطاط. وقد قام خطاب إحياء النموذج كرد فعل لانتشال الشعر العربي مما لطخه من أوحال  علقت به إبان فترة الانحطاط، وهي فترة غلب فيها ميل الشعر إلى التكلف والتصنع أكثر من ميله إلى الطبع والشاعرية، فجاء شعرهم جافا وخال من المعاني والمضامين الشريفة والمناسبة.

وقد قام شعر البعث والإحياء على محاكاة الأقدمين و اقتفاء آثارهم. حيث حافظوا على نظام الشطرين وعلى وحدة الروي ووحدة الوزن و القافية. و من حيث المضامين حافظوا  على الأغراض التي نظم فيها الأقدمون، مع مسايرة عصرهم والقضايا الوطنية والتاريخية... بل إنهم عارضوا قصائد بعينها مثل سينية البحتري والبردة للبوصيري، ولعل أبرز من قاد هذه الحركة الشعرية حافظ إبراهيم، أحمد شوقي، معروف الرصافي، وعلال الفاسي وغيرهم، ويعد صاحب النص الذي بين أيدينا "الشاعر محمود سامي البارودي" واحدا من رواد هذه المدرسة، بل إنه أحد المؤسسين الكبار لهذا التيار الشعري. وقد عرف بوطنيته ومناهضته للاستعمار الانجليزي، فعرضه ذلك إلى النفي نحو جزيرة سرنديب لمدة سبع عشرة سنة عانى فيها مرارة الحياة. ومن خلال ملاحظتنا البصرية لشكل النص نجده مبنيا على تناظر الشطرين ووحدة الروي، ومن خلال العنوان الذي هو عبارة عن جملة فعلية مكونة من ثلاثة عناصر يتوسطها  فعل مضارع "يبين" مسبوق بحرف يدل على المستقبل "سوف" ومتبوع بكلمة ذات شحنة دينية وثقافية كبيرة وقوية "الحق"، أمكن الافتراض بأنه عبارة عن قصيدة شعرية تندرج ضمن خطاب إحياء النموذج يبرز فيها الشاعر تجربته الغنية في المنفى الذي أبعده عن ابنته، فإلى أي حد استطاع الشاعر تمثيل تيار إحياء النموذج من خلال هذا النص؟ وإلى أي حد يمثل هذا النص التيار الشعري الذي ينتمي إليه؟

تكشف لنا القراءة الأولية للقصيدة أن الشاعر استهلها بتقديم صورة من جانبه النفسي المفعم بكل معاني المعاناة والألم والشطط النفسي، وذلك جراء نفيه من وطنه بعيدا عن أهله وأحبابه. وقد نتج عن ذلك فراغ عاطفي ووجداني ملؤه الشوق والحنين إلى الوطن والأهل نتيجة التذكر المؤلم. وقد ركزت الصورة على "سميرة" بواسطة العقل ليتبين للشاعر من خلالها قصة الشوق والحنين، فهو لم يعد له من حياته إلا أشباح ذكريات الماضي. ثم انتقل بعد ذلك إلى إبراز وسائل التحدي، متحليا بالصبر عاقدا الأمل على الله في انجلاء همومه. وانتقل بعد ذلك إلى تقديم جملة من الحكم والعبر. لكن الشاعر لا ينسى  أن يفتخر في ارتياد آفاق المجد والطموح والأمل في درك العلا. ليختم الشاعر قصيدته بأمله في انجلاء الهموم وبيان الحق وانتصاره على الأعداء وإلحاق العار بهم معتمدا على الله فيما يقوله ويفعله. وانطلاقا من فهم القصيدة يمكن تقسيم  وحداتها الأساسية، مع اقتراح عنوان مناسب لكل وحدة كما يلي:

·         الوحدة الأولى ( ب 1 – ب 6): معاناة الشاعر نتيجة بعده عن ابنته "سميرة".

·         الوحدة الثانية ( ب 7 – ب 10): تأمل الشاعر في الحياة قاده إلى إنتاج الحكمة .

·         الوحدة الثالثة: ( ب 11 – ب 19): افتخار الشاعر بنفسه.

·         الوحدة الرابعة ( ب 20 – ب 24): انهزام الشاعر أمام الدهر وتفاؤله بالفرج.

وقد عبر الشاعر عن تجربته الذاتية ،وهي تجربة تختزل الحياة في مظاهرها المختلفة لتكون، بذلك، تجربة جماعية أكثر مما هي تجربة فردية. وبهذا انتقل من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة تعبيرا عن " المضمون الجماعي الذي تقوم علية المدرسة التقليدية". ومن هنا أيضا نستنتج الوظيفة التوجيهية الإصلاحية وكذلك الاستجابة لروح العصر، وبالتالي الالتزام بأسس الاتجاه التقليدي( إحياء النموذج). ومن خلال مضمون النص، نكتشف ارتباط الشاعر بالموروث القديم( الحكمة – الافتخار – الفروسية....)، الأمر الذي على إحيائه النموذج التقليدي والتزامه بعمود الشعر العربي من جهة المضمون، لنتساءل الآن عن الشكل: ما مدى تجسيد الشاعر لخصائص إحياء النموذج في باقي مستويات هذا النص الشعري؟

للوقوف على الخصائص الشكلية للنص نبدأ بالمعجم الذي  يمكن تحديده في أربعة حقول على الشكل الآتي:

ü      الحقل الدال على المعاناة والحنين والتذكر: تأوب طيف – سميرة – الخواطر – الذكرى – أخال الظن حقا – السمادر – أحبتي – أصابني- كره – يحاذره – مره – المفاقر- الدوائر- رزية- غمرة- غيابتها ...

ü      الحقل الدال على الفخر والقوة: العلا- السيف اليماني- أرسل السهم- ملكت- أبت نفسي الكريمة- دركت العلا- المجد- قؤول- صؤول- أنا المرء...

ü      الحقل الدال على الصبر والتفاؤل:صبرت – أماني النفس- حياتها- يصبر- يركن إلى الله- أحلام الرجال- الوجد- سوف يبين الحق-باسم- العلا...

ü      الحقل الدال على الحكمة والدين: ويمثل هذا الحقل البيت الخامس- البت السابع- الثامن- التاسع- العاشر- الرابع عشر- الخامس عشر- التاسع عشر- الحادي والعشرين- الثاني والعشرين- الرابع والعشرين.

نستخلص من خلال المعجم أعلاه أن الشاعر قد وظف معجما شعريا قديما ( قؤول- صؤول- السمادر- المفاقر- عوازب-باسر الدوائر..) مما يؤكد التزامه باللغة القديمة والحفاظ على الموروث الشعري القديم وإحيائه النموذج العربي القديم والتزامه بخصائص الخطاب الإحيائي. كما أن تعدد الموضوعات التي عالجها البارودي في هذا النص ( الوصف- الفخر- الحكمة) يؤكد ما مدى التزامه بأسس المدرسة البعثية.

إن التيمة التي كشفنا عنها سابقا لتبدو جلية كذلك من خلال الصورة الشعرية للقصيدة. حيث إن الصور الفنية قد حاولت بدورها أن تؤكد الصلة الوثيقة بتقاليد القصيدة القديمة في مجال التصوير الفني. ولكي نتأكد من ذلك فلنتأمل الصور الآتية:

·         المجاز والاستعارة: " أفواه المنايا فواغر" ( البيت 17)- "ومن لم يدق حلو الزمان ومره" ( البيت 9).

·         الكناية: " عقاب الملك" (البت11) يريد به ما تولاه في حياته بمصر من مناصب الحكم ومراتب القيادة.و"وأي حسام لم تصبه كلالة" في البيت 22، كناية على أن كل إنسان في هذه الدنيا لا يسلم من المصائب." قؤول وأحلام الرجال عوازب" فقد كنى بغروب الأحلام عن اشتداد الخطب وتعقد الأمور، و" صؤول وأفواه المنايا فواغر" كناية عن اشتداد الحرب وتوقد لظاها.

·         الجناس التام: "حاضر" ( البت 15 والبت 20)

·         الجناس غير التام: " قؤول- صؤول"( البيت17)  - " باسم- باسر" البيت 18).

·         الطباق: الفقر/المال – لم يدنس/ لم يشرف – فاضح/ ساتر .

لقد ساهمت هذه الصور الفنية في إضفاء جمالية على القصيدة، كما انتقلت بلغة النص من الطابع التقريري المباشر إلى الطابع الإيحائي الغير المباشر، وبذلك حققت للنص شعريته وجماليته. وبهذا يكون البارودي قد ساهم في إحياء النموذج القديم على مستوى التصوير الفني.

وبغية التمعن أكثر في علامات البعث والإحياء وإشاراته في هذا النص كان لزاما علينا مساءلة المستوى الموسيقي الذي يكشف عن الحس التنظيمي داخل النص انطلاقا من شقيه الداخلي والخارجي.

فبالنسبة للإيقاع الخارجي وبعد التقطيع العروضي للبيت الأول، يتضح أن القصيدة نظمت على منوال بحر الطويل، وهو من البحور الشعرية الأكثر ترددا في الشعر العربي القديم نظرا لما تتيحه تفعيلته المركبة من ( فعولن مفاعيلن) من جوازات، ولما يضفيه تواترها المعهود على القصيدة من قوة وفخامة وانسياب، فهي تنسجم مع غرض الفخر الذي يطغى على القصيدة. وإذا كان شاعرنا قد التزم بتفعيلات البحر الطويل( فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن) فإنه قد التزم بوحدة الروي (حرف الراء) ووحدة القافية(/0//0)،هذا فضلا عن لجوئه إلى تصريع مطلع القصيدة.

نخلص من خلال دراستنا للإيقاع الخارجي(الوزن—الروي-القافية) إلى ان البارودي التزم بأسس مدرسة البعث والإحياء على مستوى الوزن.

وأما فيما يخص الإيقاع الداخلي فقد ساهمت مجموعة من الظواهر الصوتية في تحقيقه ولعل أبرزها: ظاهرة التكرار. فهي تحظر في النص بكثرة وبأنواع مختلفة نوضحها كما يلي:

بالنظر إلى العلاقة الدالية والمدلولية بين الكلمات المتكررة: - تكرار التجانس " حاضر في البيتين 15 و20 " – تكرار التطابق ومثاله كلمة" المال" في البيت 15 – تكرار الترادف ومثاله " طورا – تارة " في البيت 3، " الدهر (ب 13) والزمان(ب21)"،"الحسام(ب22)و السيف(ب10)".

بالنظر إلى موقع التكرار: + تكرار البداية (تكرار حرف الفاء في بداية الأبيات 19- 19-20-21) + تكرار النهاية (تكرار حرف الراء كروي للقصيدة) + التكرار الحر ( تكرار حرف الفاء والواو في القصيدة).

بالنظر إلى حجم الملفوظات المتكررة: * التكرار المتوازن كلمة "المال" في البت 15 . * التكرار مع الزيادة" المجد – المجد حاضر". * التكرار مع التبذيل "المجد غائب- المجد حاضر بـ 15".* التكرار مع الحذف " المجد غائب- المجد بـ ـ 15"

كما نشير إلى حضور ظاهرة التوازي في القصيدة مثل قوله:

o               فلا أنا إن أدانني الوجد باسم *** ولا أنا إن أقصاني العدم باسر

o               فقد يستجم المال والمجد غائب *** وقد لا يكون المال والمجد حاضر.

يتضح لنا مليا من خلال دراسة الإيقاع الداخلي آن الشاعر نجح في تحقيق اتساق النص وانسجامه من خلال الربط بين عنصري

الشكل والمضمون وجعل الشكل يقدم المضمون. كما نجح أيضا في تمثيل الاتجاه الإحيائي على المستوى الموسيقي.

وعلى مستوى الأسلوب نسجل حضور الجمل الاسمية للتعبير عن ثباته على المبادئ السامية رغم الظروف العصيبة التي يمر منها، وبالتالي ثبات شخصيته على الحق الذي يعمل لإظهاره مع ثقة كبيرة في الله تعالى وثبات على ذلك. كما استخدم كذلك الجمل الفعلية للإشارة إلى الحركة والتحول والاضطراب الذي يعانيه الشاعر في الحاضر نتيجة حزنه على فراق ابنته التي كانت معه في الماضي، ونتيجة الحق الذي يأمل أن يظهر ويعلن للجميع في المستقبل.

أما فيما يخص الضمائر فقد راوح الشاعر بين ضمير المتكلم المفرد (أنني- أنا- صبرت- ملكت- صبحني- رمت...) للتعبير عن تجربته الذاتية، ولأنه ضمن هذه التجربة يفتخر بنفسه كثيرا. وضمير المخاطب ( فلا تحسبن) لتقريب المتلقي إليه حتى يستجيب له بسهوله. وضمير الغائب (تمثلها – إليها) للتعبير عن ابنته "سميرة" الغائبة عنه وللتعبير أيضا عن الحكمة التي تقع على كل إنسان كيفما وأينما ومتى كان. ومن هنا يكون البارودي قد حقق- مرة أخرى- خصائص الشعر التقليدي من حيث الوظيفة التوجيهية الإصلاحية والاستيعابية لروح العصر.

وعلى مستوى الأفعال فقد جاءت متنوعة كــ : الماضي ( تأوب- صبرت- ملكت) للتعبير عن ذكرياته خاصة مع ابنته "سميرة". والحاضر ( أخال- تأوب – أهيم – تغشى...) للتعبير عن المعاناة التي يعيشها في واقعه الحالي المتمثل في النفي الذي ولد لديه الإصرار على الصمود والشوق إلى لقاء أحبته. والمستقبل (سوف يبين الحق) للتعبير عن آماله المستقبلية المتمثلة في الأمل في فرج الله تعالى بظهور الحق. كما نستنتجه أيضا من صيغة الشرط وبعض الأدوات الدالة على الطلب.

تأسيسا على ما سبق، يتضح لنا أن البارودي قد ظل وفيا لتقاليد القصيدة العربية القديمة مخلصا لنظامها، مستجيبا لعمود الشعر وأصوله المحددة، ومستلهما للمعاني الشعرية للسابقين. فقد تنوعت تجربته الشعرية في المنفى بين المعاناة والحكمة والافتخار والتفاؤل. وبهذا يكون البارودي عالج موضوعات متعددة في قصيدة واحدة. باعتماد لغة قديمة وإيقاع قديم وصور شعرية ومعاني قديمة مع التعبير عن حقبة معاصرة. وبذلك التزم بمقومات الشعر العربي القديم شكلا ومضمونا مع استجابته لروح العصر. ولئن كان هذا هو ما يقوم عليه خطاب البعث والإحياء فإن محمود سامي البارود يعد إماما للمدرسة الاتباعية( الكلاسيكية) في الشعر الحديث.

 


اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على "تحليل نص: "سوف يبين الحق" لمحمود سامي البارودي "

إرسال تعليق

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات